عن
أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «بينا رجل بطريق اشتد
عليه العطش
فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل
الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل
البئر فملأ خفه ماء فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له قالوا يا رسول الله:وإن لنا
في البهائم لأجراً.فقال:في كل ذات كبد رطبة أجر». متفق عليه
هذا الحديث استخدم فن القصة في توضيح قيمة خلقية بعيدة عن عناية الناس ،
وهي الرحم بالحيوانات والبهائم كبيرها وصغيرها ، فمهَّد لها بقصة هذا الرجل ، وهو
إنسان قد أثَّرت فيه الأخلاق الفاضلة واستجاشت قلبه عوامل الرحمة ، فاستجاب قلبه
استجابة خالصة لا مجال للرياء فيها ، وليس للغرض الشخصي مطمح وراءها ، ذلك أنه كان
يمشي بطريق بعيدة عن الناس والمدن، وعطش
كثيراً ثم وجد بئراً فنزل إليها وشرب وخرج ، ولا شك أنه في هذا النزول والصعود قد
تعب كثيرا ، وإذ المفاجأة تجعله يرى فور خروجه كلباً يأكل الثرى من شدة العطش ،
لأن في التراب رطوبة تخفف من شدة العطش ، وهذا يعني أن العطش قد بلغ مبلغه من
الكلب.. وهنا قال الرجل عندما رأى هذا المشهد: « لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان
بلغ مني». ولم يكن معه إناء ، فنزل إلى البئر ونزع خفه ، وملأه ماءً
وأمسك الخف بفيه حتى صعد البئر ، وهنا تظهر حذاقته وإنسانيته بما فيها من تواضع
وما فيها من رحمة ، حقاً إنه رجل قد بلغت به الرحمة الإنسانية مبلغاً عظيماً حتى
فعل ذلك كله بمحض الإخلاصوالرحمة والشفقة
، ولم يطلب على عمله مطمعاً من أجر أو شكر أحد من الناس ، أو سمعة عندهم ، فأثنى
الله تعالى عليه بأن ذكره بين الملائكة ورفع من شأنه ، لأنه قام بعمله خالصاً لوجه
الله تعالى لا تشوبه شائبة الرياء فاستحق هذا الرجل التشريف: فشكر الله تعالى له
فغر له ذنوبه لإسدائه الجميل لحيوان أعجم.
وهنا وصلت القصة إلى غاية التأثير الذي يقصد من سياقها إذ إن السامعين
تشوقوا لمعرفة هذا الفضل ، هل هو خاص لهذا الرجل فقط أم عام لكل أحد يفعل مثل فعله
؟؟ فانطلقوا يسألون: « وإن لنا في البهائم أجراً ؟ » يعني هل هذا الأجر خاص بالرجل
أم يشمل غيره من الناس؟ وهذا يعني أن الرغبة بعمل مثل ما قام الرجل بعمله قد
تحققت، فما تمالكوا أنفسهم إلا وسألوا: «
وإن لنا في البهائم أجراً ؟ ».
والبهائم: كل ما يدن على أربع ولكن الحديث عمّم ووسّع ، أن هذه الفضيلة
لهذا العنصر الإنساني ليس خاصاً بذلك الإنسان ، بل ليس خاصاً بهذا الحيوان أو
البهائم ، ولكنه فضل وثواب يعطى لكل إنسان يُسدِى معروفاً لكائن حيّ على وجه هذه
البسيطة.
« في كل كبد رطبة
أجر»: أي في كل كائن حيّ ، لأن وجود الكبد الرطبة علامة على الحياة
، والكلام على تقدير محذوف أي: « في كل ذات كبد رطبة أجر» وثبت ذلك في البخاري
، والكبد أول عضو يتأثر بالعطش ، فإذاً ليس ذكر الكبد للتقييد ، وإنما هذا من باب
الكناية أطلق اللازم وأراد الملزوم ، فالكبد لازم من لوازم الحياة.
يبدو أن البطل في هذه القصة وحيداً من أولها إلى آخرها ، فهو الشخصية
الأساسية التي تدور حولها الأحداث ، أما الكلب فهو كائن منفعل في حين يظل الرجل
فاعلاً.
وهذا البطل إيجابي تملأ قلبه الرحمة
إذ يحاور نفسه في حديث داخلي ، حدد رأفته تجاه الحيوان وإحساسه بالكائنات ،
وتظهر رحمته البالغة وتواضعه في ملئه خفه وإمساكه له بفيه ثم صعوده ليسقي الكلب
العطشان ، وذلك يُبرز لنا صورة حسية واقعية تعبر عن رحمة ورأفة عميقتين في قلب
الرجل ، وهذه الرحم هي التي استمطرت عليه شكر الله وإكرامه بالمغفرة فتأتي خاتمة
القصة ببشارة جليلة: «فشكر الله له فغر له».
هنا ينقلنا الحديث إلى حوار جماعي مع النبي عليه الصلاة والسلام استثارته
القصة: « قالوا يا رسول
الله:وإن لنا في البهائم لأجراً.فقال:في كل ذات كبد رطبة أجر».
يتضح من الحديث أن المكان صحراوي ن فالمشي واشتداد العطش من مستلزمات
السفر القديم ، وهو مكان عام يومئ النص إليه إيماءً ، ثم يذكر البئر وهو مكان عام
في الصحراء يقصده المسافرون ، وتضح معالم هذا المكان من خلال الكلب الذي يأكل
الثرى ، فهو إذا مكان تألفه الحيوانات.
وهذه الأماكن بجفافها وصعوبة العيش فيها تعبر عن الامتحان الدنيوي ومشقته.
الزمن الخارجي لهذه الأقصوصة هو الزمن الماضي ، ولم يلتفت الحديث للتحديد
الدقيق للزمن فالمقصود الرئيس من القصة هو التأسي بالمكارم وأخذ العبر والدروس
منها.
أما الزمن الداخلي فهو بسيط لأنه يؤطر موقفاً واحداً من مواقف حياة الرجل
، والمشهد صغير الزمن، النزول والشرب
وسقي الكلب ، ولكنه دعوة كبيرة إلى الرحمة في معاملة الحيوانات.. بل الرحمة في
معاملة الناس الذين خلقهم الله تعالى وكرّمهم..
* أهم المصادر والمراجع:
-
في ظلال الحديث النبوي الشريف: د. نور الدين عتر.
-
صحيح البخاري: الإمام البخاري.
-
فتح الباري شرح صحيح البخاري: الإمام ابن حجر
العسقلاني.
-
صحيح مسلم: الإمام مسلم.
طباعة
ارسال