لم يلبث هذا التيار من النشاط العلمي وكتابة الحديث أن طالع العالم
بمدونات حديثية مختلفة على يدي أبناء النصف الأول من القرن الثاني الهجري، وقد
ظهرت تلك المصنفات والكتب في أوقات متقاربة وفي مناطق مختلفة من الدولة الإسلامية،
فبعد أن كان أهل الحديث يجمعون الأحاديث المختلفة في الصحف والكراريس أصبحوا
يرتبون الأحاديث على الأبواب، وكانت هذه المصنفات تشتمل على السنن وما يتعلق بها،
وكان بعضها يسمى مصنفاً وبعضها يسمى جامعاً أو مجموعاً وغير ذلك. وقد اختُلف في
أول من صنَّف وبوَّب، فقيل عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج البصري (-150هـ )
بمكة، ومالك بن أنس (93- 179هـ )، أو محمد بن إسحاق (-151هـ ) بالمدينة المنورة،
وصنف بها محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب (80- 158هـ ) موطأ أكبر من موطأ مالك،
والربيع بن صبيح (-160هـ )، أو سعيد بن أبي عروبة (-156هـ )، أو حماد بن سلمة
(-167هـ ) بالبصرة، وسفيان الثوري (97- 161هـ ) بالكوفة، وخالد بن جميل العبد،
ومعمر بن راشد (95- 153هـ ) باليمن، والإمام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي (88-
157هـ ) بالشام، وعبد الله بن المبارك (118- 181هـ ) بخراسان، وهيثم بن بشير (104-
183هـ ) بواسط، وجرير بن عبد الحميد (110-
188هـ ) بالري، وعبد الله بن وهب (125- 197هـ ) بمصر.
ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم، وقد كان هذا التصنيف
بالنسبة إلى جمع الأبواب وضمها إلى بعضها في مؤلف أو جامع، وأما جمع حديث إلى مثله
في باب واحد فقد سبق إليه التابعي الجليل عامر الشعبي (19- 103هـ ) الذي يروى عنه
أنه قال: هذا باب من الطلاق جسيم، إذا اعتدت المرأة ورثت، وساق فيه أحاديث.
وكان معظم هذه المصنفات والمجاميع يضم الحديث وفتاوى بعض الصحابة
والتابعين، كما يتجلى لنا بعض هذا في موطأ الإمام مالك بن أنس. ثم رأى بعضهم أن
تفرد أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في مؤلفات خاصة، فأُلِّفت المسانيد وهي كتب
تضم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسانيدها خالية من فتاوى الصحابة
والتابعين، تجمع فيها أحاديث كل صحابي – ولو كانت في مواضيع مختلفة- تحت اسم مسند
فلان ومسند فلان وهكذا.
وأول من ألَّف المسانيد أبو داود سليمان بن الجارود الطيالسي (133- 204هـ
)، وتبعه بعض من عاصره من أتباع التابعين وأتباعهم، فصنف أسد بن موسى الأموي
(-212هـ ) وهو أول من صنف المسند بمصر، وعبيد الله بن موسى العبسي (-213هـ )،
ومسدد البصري (-228هـ )، ويحيى بن عبد الحميد الحماني الكوفي (-228هـ ) وقال ابن
عدي: هو أول من صنف المسند بالكوفة، ونعيم بن حماد الخزاعي المصري (-228هـ )،
واقتفى الأئمة آثارهم كأحمد بن حنبل (164- 241هـ )، وإسحاق بن راهويه (161- 238هـ
)، وعثمان بن أبي شيبة (156- 239هـ ) وغيرهم.
ويعتبر مسند الإمام أحمد بن حنبل – وهو من أتباع أتباع التابعين- أوفى تلك
المسانيد وأوسعها.
جمع هؤلاء الأحاديث ودونوه بأسانيده واجتنبوا الأحاديث الموضوعة، وذكروا
طرقاً كثيرة لكل حديث يتمكن بها جهابذة هذا العلم وصيارفته من معرفة الصحيح من
الضعيف والقوي من المعلول مما لا يتيسر لكل طالب علم، فرأى بعض الأئمة أن يصنفوا
في الحديث الصحيح فقط، فصنفوا كتبهم على الأبواب واقتصروا فيها على الحديث الصحيح،
وظهرت الكتب الستة في هذا العصر عصر أتباع أتباع التابعين، وكان أول من صنف ذلك
الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (194- 256هـ )، ثم الإمام مسلم بن
الحجاج القشيري (204- 261هـ )، وأبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني (202- 275هـ
)، وأبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (-279هـ )، وأحمد بن شعيب الخراساني
النسائي (215- 303هـ ). ثم ابن ماجه وهو عبد الله بن محمد بن يزيد بن عبد الله بن
ماجه القزويني (207- 273هـ )، وقد خُدمت هذه الكتب بالشرح والتهذيب والاختصار
والاستخراج عليها من قبل العلماء الذين جاؤوا بعدهم.
-
الوجيز في علوم الحديث: د. محمد الخطيب.
-
نزهة النظر شرح نخبة الفكر: الإمام ابن حجر العسقلاني.
-
انظر: قواعد التحديث من علوم الحديث: الشيخ جمال الدين
القاسمي.
-
مقدمة ابن الصلاح: الإمام ابن الصلاح.
طباعة
ارسال