1-
الكتابة عند العرب قبيل الإسلام:
تدل الدراسات العلمية على أن العرب كانوا يعرفون الكتابة قبل الإسلام،
فكانوا يؤرخون أهم حوادثهم على الحجارة، وقد أثبتت الأبحاث الأثرية ذلك بأدلة
قاطعة تعود إلى القرن الثالث الميلادي، وأكثر الآثار التي تحمل كتابات العرب كانت
في الأطراف الشمالية للجزية العربية حيث كان الاتصال وثيقاً بالحضارة الفارسية
والرومية، ومما يذكر أن عدي بن زيد العبادي (- 35ق هـ ) حين نما وأيفع طرحه أبوه
في الكتاب حتى حذق العربية، ثم دخل ديوان كسرى، وهو أول من كتب بالعربية في ديوان
كسرى. وهذا يدل على وجود بعض الكتاتيب في الجاهلية يتعلم فيها الصبيان الكتابة
والشعر وأيام العرب، ويشرف على هذه الكتاتيب معلمون ذوو مكانة رفيعة أمثال أبي
سفيان بن أمية بن عبد شمس، وبشر بن عبد الملك السكوني، وأبي قيس بن عبد مناف بن
زهرة، وعمرو بن زرارة المسمى بـ (الكاتب) وغيرهم، وقد استقدم أبو جفينة إلى
المدينة ليعلم الكتابة، (وكان بعض اليهود قد علم كتاب العربية، وكان يعلمه الصبيان
بالمدينة في الزمن الأول، فجاء الإسلام وفي الأوس والخزرج عدة يكتبون).
وكان العرب يطلقون اسم (الكامل) على كل رجل يكتب، ويحسن الرمي، ويجيد
السباحة، ولكن كثيراً من الشعراء كانوا يفخرون بحفظهم وقوة ذاكرتهم، بل إن بعضهم
كان يخفي على الناس معرفته بالكتابة، ويخشى أن يكشف أحد أمره، وإذا ما كشف أمر
أحدهم قال: (أكتم علي فإنه عندنا عيب).
بعد هذا نستبعد أن يكون قول بعض المؤرخين: (دخل الإسلام وبمكة بضعة عشر
رجلاً يكتب) – صورة دقيقة لحقيقة معرفة العرب بالكتابة قبيل الإسلام، ونستبعد أن
يكون هذا على وجه الإحصاء والضبط، ومع هذا لا يباح لنا أن نغالي في معرفة العرب
للكتابة، ونذهب مذهب من ادعى كثرة الكتابة عند العرب في الجاهلية وكثرة الكاتبين
القارئين، وقد حاول بعض المستشرقين وبعض الكاتبين العرب أن يدعموا رأيهم هذا
بتأويل وصف الله تعالى للعرب (بالأميين) – في قوله عزوجل: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [الجمعة: 2] – بأنه (لا
يعني الأمية الكتابية ولا العلمية، وإنما يعني الأمية الدينية، أي أنه لم يكن لهم
من قبل القرآن الكريم كتاب ديني، ومن هنا كانوا أميين دينياً، ولم يكونوا مثل (أهل
الكتاب) من اليهود والنصارى الذين كان لهم التوراة والإنجيل). وحمل هذا اللفظ على
هذا المعنى من غير قرينة لا مسوغ له، لأنه يقتضي التفريق بين تفسير الأميين وهم
العرب (جهلة الشريعة) وتفسير ما وصف به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمية- في
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ
النَّبِيَّ الأُمِّيَّ﴾ [الأعراف: 157] بأنه الذي لا يعرف القراءة والكتابة،
ولا داعي لهذا التفريق في المعنى ولا مؤيد له، فلا بد من حمل اللفظ على أحد
المعنيين، والأصل فيه عدم معرفة القراءة والكتابة، على أن الرسول صلى الله عليه
وسلم بين الأمية المعنية بما لا يرقى إليه الشك، فقد أخرج الشيخان وأصحاب السنن عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. الشهر
هكذا..».
2- الكتابة في العصر النبوي وصدر الإسلام:
مما لا شك فيه أن الكتابة انتشرت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على
نطاق أوسع مما كانت عليه في الجاهلية، فقد حث القرآن الكريم على التعلم، وحض
الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك أيضاً، واقتضت طبيعة الرسالة أن يكثر
المتعلمون، القارئون، الكاتبون، فالوحي يحتاج إلى كتَّاب، وأمور الدولة من مراسلات
وعهود ومواثيق تحتاج إلى كتَّاب أيضاً، وقد كثر الكاتبون بعد الإسلام فعلاً ليسدوا
حاجات الدولة الجديدة، فكان للرسول كتَّاب للوحي بلغ عددهم أربعين كاتباً، وكتَّاب
للصدقة، وكتَّاب للمداينات والمعاملات، وكتَّاب للرسائل يكتبون باللغات المختلفة.
وإن ما ذكره المؤرخون من أسماء كتَّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن على
سبيل الحصر، بل ذكروا من دوام على الكتابة بين يديه، ويظهر هذا واضحاً في قول
المسعودي: (إنما ذكرنا من أسماء كتَّابه صلى الله عليه وسلم من ثبت على كتابته،
واتصلت أيامه فيها، وطالت مدته، وصحت الرواية على ذلك من أمره دون من كتب الكتاب
والكتابين والثلاثة، إذ كان لا يستحق بذلك أن يسمى كاتباً، ويضاف إلى جملة كتابه).
وقد كثر الكاتبون بعد الهجرة عندما استقرت الدولة الإسلامية، فكانت مساجد
المدينة التسعة إلى جانب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم محط أنظار المسلمين
يتعلمون فيها القرآن الكريم وتعاليم الإسلام والقراءة والكتابة، وقد تبرع المسلمون
الذين يعرفون الكتابة والقراءة بتعليم إخوانهم، وأرجِّح أنه كان من أوائل هؤلاء
المعلمين سعد بن الربيع الخزرجي أحد النقباء الاثني عشر، وبشير بن سعد بن ثعلبة،
وأبان بن سعيد بن العاص، وغيرهم رضوان الله عليهم.
وكان إلى جانب هذه المساجد كتاتيب يتعلم فيها الصبيان الكتابة والقراءة
إلى جانب القرآن الكريم. ولا يفوتنا أن نذكر أثر غزوة (بدر) في تعليم صبيان
المدينة حينما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسرى بدر بأن يفدي كل كاتب منهم
نفسه بتعليم عشرة من صبيان المدينة الكتابة والقراءة، ولم يقتصر تعليم الكتابة
والقراءة على الذكور فقط بل كانت الإناث تتعلمن هذا في بيوتهن، فقد روى أبو بكر بن
سليمان بن أبي حثمة عن الشفاء بنت عبد الله أنها قالت: (دخل علي رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأنا عند حفصة فقال لي: «ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها
الكتابة».
ثم اتسع نطاق التعليم وانتشر في الآفاق الإسلامية بانتشار الصحابة رضوان
الله عليهم، وكثرت حلقات العلم وانتظمت في المساجد، وأضحت بعض الحلقات تضم نيفاً
وألفاً من طلاب العلم، وكثر المعلمون، وانتشرت الكتاتيب في مختلف أنحاء الدولة
الإسلامية وغصت بالصبيان وضاقت بهم حتى اضطر الضحاك بن مزاحم معلم الصبيان ومؤدبهم
إلى أن يطوف على حمار ليشرف على طلاب مكتبه الذين بلغ عددهم ثلاثة آلاف صبي، وكان
لا يأخذ أجراً على عمله.
فإذا رأينا – بعد ذلك- أن الحديث الشريف لم يُدوَّن تدويناً رسمياً في عهد
الرسول صلى الله عليه وسلم كما دُوِّن القرآن الكريم- فلا بد لنا من البحث عن
السبب الذي أدى إلى عدم تدوينه في عصره صلى الله عليه وسلم.
ونحن في بحثنا هذا لا يمكننا أن نستسلم لتلك الأسباب التقليدية التي اعتاد
الكاتبون أن يعللوا بها عدم التدوين، ولا نستطيع أن نوافقهم على ما قالوه من أن
قلة التدوين في عهده صلى الله عليه وسلم تعود قبل كل شيء إلى ندرة وسائل الكتابة
وقلة الكتَّاب وسوء كتابتهم – لا يمكننا أن نُسلِّم بهذا بعد أن رأينا نيفاً
وثلاثين كاتباً يتولون كتابة الوحي للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وغيرهم
يتولون أموره الكتابية الأخرى، ولا يمكننا أن نعتد بقلة الكتَّاب وعدم إتقانهم لها
وفيهم المحسنون المتقنون أمثال زيد بن ثابت، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ولو
قبلنا جدلاً ما ادعوه من ندرة وسائل الكتابة وصعوبة تأمينها لكفى في الرد عليهم أن
المسلمين دوَّنوا القرآن الكريم ولم يجدوا في ذلك صعوبة، فلو أرادوا أن يدوِّنوا
الحديث ما شق عليهم تحقيق تلك الوسائل كما لم يُشق هذا على من كتب الحديث بإذن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا بد من أسباب أخرى، وإنا لنرى تلك الأسباب من
خلال الآثار الثابتة عن رسول الله صلى الله علي وسلم وعن الصحابة والتابعين، وسنرى
أن تدوين الحديث مر بمراحل منتظمة حققت حفظه وصانته من العبث، وقد تضامنت الذاكرة
والأقلام وكانا جنباً إلى جنب في خدمة الحديث الشريف، ونستعرض الآن تلك الآثار
التي تلقي لنا بعض الضوء على حقيقة تدوين السنة:
* ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتابة:
آ- ما روي من كراهة الكتابة:
1- روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تكتبوا
عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه» وهذا الحديث أصح ما ورد عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم في هذا الباب.
2- وقال أبو سعيد الخدري: (جهدنا بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن لنا
في الكتاب فلم يأذن لنا).
3- روي عن أبي هريرة أنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم
ونحن نكتب الأحاديث فقال: «ما هذا الذي تكتبون»؟ قلنا: أحاديث نسمعها منك، قال:
«كتاب غير كتاب الله؟ أتدرون؟ ما ضل الأمم قبلكم إلا بما اكتتبوا من الكتب مع كتاب
الله تعالى».
ب- ما روي من إباحة الكتابة:
1- قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: كنت أكتب كل شيء أسمعه
من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: تكتب كل شيء
سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم
في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال: «اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق».
2- قال أبو هريرة رضي الله عنه: (ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
أحد أكثر حديثاً عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا
أكتب).
3- روي عن أبي هريرة أن رجلاً من الأنصار كان يشهد حديث رسول الله صلى
الله عليه وسلم فلا يحفظه، فيسأل أبا هريرة فيحدثه، ثم شكا قلة حفظه إلى الرسول
صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: «استعن على حفظك بيمينك».
4- روي عن رافع بن خديج أنه قال: قلنا: يا رسول الله، إنا نسمع منك أشياء،
أفنكتبها؟ قال: «اكتبوا ولا حرج».
5- روي عن أنس بن مالك أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قيدوا
العلم بالكتاب».
6- روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كتب كتاب الصدقات والديات
والفرائض والسنن لعمرو بن حزم وغيره.
7- روي عن أبي هريرة أنه لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة
قام الرسول صلى الله عليه وسلم وخطب في الناس، فقام رجل من أهل اليمن يقال له أبو
شاه فقال: يا رسول الله، اكتبوا لي، فقال: «اكتبوا له».
قال أبو عبد الرحمن (عبد الله بن أحمد): ليس يروى في كتابة الحديث شيء أصح
من هذا لحديث لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم: قال: «اكتبوا لأبي شاه».
8- روي عن ابن عباس أنه قال: لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه
قال: «ايتوني بكتاب لكم كتاباً لا تضلوا بعده»، قال عمر: إن النبي صلى الله عليه
وسلم غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط، قال: «قوموا عني،
ولا ينبغي عندي التنازع». إن طلب الرسول هذا واضح في أنه أراد أن يكتب شيئاً غير
القرآن، وما كان سيكتبه هو من السنة، وإن عدم كتابته لمرضه لا ينسخ أنه قد هم به،
وكان في آخر أيام حياته عليه الصلاة والسلام، فيفهم من هذا إباحته عليه الصلاة
والسلام الكتابة في أوقات مختلفة ولمواضيع كثيرة، في مناسبات عدة، خاصة وعامة.
وإذا كانت الأخبار الدالة على إباحة الكتابة منها خاص كخبر أبي شاه، فإن
منها أيضاً ما هو عام لا سبيل إلى تخصيصه كسماحه لعبد الله بن عمرو بالكتابة
وللرجل الأنصاري الذي شكا سوء حفظه، ويمكن أن نستشهد في هذا المجال بخبر أنس ورافع
بن خديج وإن تكلم فيهما، لأن طرقهما كثيرة يقوي بعضها بعضاً، وللعلماء مع هذا آراء
في هذه الأخبار سأوجزها فيما يلي:
حاول العلماء أن يوفقوا بين ما ورد من نهي عن الكتابة وما ورد من إباحة
لها، وترجع آراؤهم إلى أربعة أقوال:
الأول: قال بعضهم: إن حديث أبي سعيد الخدري موقوف عليه فلا يصلح للاحتجاج
به. وروي هذا الرأي عن البخاري وغيره، إلا أننا لا نسلِّم بهذا لأنه ثبت عند
الإمام مسلم، فهو صحيح ويؤيد صحته ويعضده ما رويناه عن أبي سعيد رضي الله عنه:
(استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن أكتب الحديث فأبى أن يأذن لي).
الثاني: أن النهي عن الكتابة إنما كان في أول الإسلام مخافة اختلاط الحديث
بالقرآن، فلما كثر عدد المسلمين وعرفوا القرآن معرفة رافعة للجهالة، وميزوه من
الحديث- زال هذا الخوف عنهم، فنسخ الحكم الذي كان مترتباً عليه وصار الأمر إلى الجواز.
وفي هذا قال الرامهرمزي: ((وحديث أبي سعيد (حرصنا أن يأذن لنا النبي صلى الله عليه
وسلم في الكتاب فأبى) أحسب أنه كان محفوظاً في أول الهجرة، وحين كان لا يؤمَن
الاشتغال به عن القرآن)). والقول بالنسخ أحد المعنيين اللذين فهمهما ابن قتيبة من
تلك الأخبار، فقال: ((أحدهما: أن يكون من منسوخ السنة بالسنة كأنه نهى في أول
الأمر أن يكتب قوله، ثم رأى بعد لما علم أن السنن تكثر وتفوت الحفظ – أن تكتب
وتقيد))، ورأى هذا الرأي كثير من العلماء، وذهب إليه العلامة المحقق الأستاذ أحمد
محمد شاكر، فبعد أن دعم رأيه بالأخبار التي تبيح الكتابة قال: ((كل هذا يدل على أن
حديث أبي سعيد: «لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه»- منسوخ، وأنه كان
في أول الأمر حين خيف اشتغالهم عن القرآن وحين خيف اختلاط غير القرآن بالقرآن،
وحديث أبي شاه في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أخبار أبي هريرة –
وهو متأخر الإسلام- أن عبد الله بن عمرو كان يكتب، وأنه هو لم يكن يكتب: يدل على
أن عبد الله كان يكتب بعد إسلام أبي هريرة، ولو كان حديث أبي سعيد في النهي
متأخراً عن هذه الأحاديث في الإذن والجواز لعرف ذلك عند الصحابة يقيناً صريحاً)).
ويمكن أن نلحق هنا الرأي الذي يقول: إن النهي إنما كان عن كتابة الحديث مع
القرآن في صحيفة واحدة لأنهم كانوا يسمعون تأويل الآية، فربما كتبوه معه، فنهوا عن
ذلك لخوف الاشتباه.
الثالث: أن النهي في حق من وثق بحفظه وخيف اتكاله على الكتابة، والإذن في
حق من لا يوثق بحفظه كأبي شاه.
الرابع: أن يكون النهي عاماً وخص بالسماح له من كان قارئاً كاتباً مجيداً
لا يُخطئ في كتابته، ولا يُخشى عليه الغلط كعبد الله بن عمرو الذي أمن عليه صلى
الله عليه وسلم كل هذا فأذن له. وهذا هو المعنى الآخر الذي فهمه ابن قتيبة من تلك
الأخبار.
ورأينا في هذه الأخبار هو صحة ما روي عن أبي سعيد من النهي، وصحة ما ورد
عن غيره من إباحة الكتابة، فنحن لا نقول بوقف خبر أبي سعيد عليه.
فالرأي الأول مردود، ويمكن أن تكون جميع هذه الآراء الثلاثة صواباً، فنهى
عليه الصلاة والسلام عن كتابة الحديث الشريف مع القرآن في صحيفة واحدة خوف
الالتباس، وربما يكون نهيه عن كتابة الحديث على الصحف أول الإسلام حتى لا يشغل
المسلمون بالحديث عن القرآن الكريم، وأراد أن يحفظ المسلمون القرآن في صدورهم وعلى
الألواح والصحف والعظام توكيداً لحفظه، وترك الحديث للممارسة العملية لأنهم كانوا
يطبقونه: يرون الرسول فيقلدونه، ويسمعون منه فيتبعونه، وإلى جانب هذا سُمح لمن لا
يختلط عليه القرآن بالسنة أن يدون السنة كعبد الله بن عمرو، وأباح لمن يصعب عليه
الحفظ أن يستعين بيده، حتى إذا حفظ المسلمون قرآنهم وميزوه عن الحديث جاء نسخ
النهي بالإباحة عامة، وإن وجود علة من علل النهي السابقة لا ينفي وجود غيرها ولا
يتعارض معه، كما أن وجود علة النهي لا ينفي تخصيص هذا النهي بالسماح لبعض من لا
تتحقق فيهم هذه العلة. فالنهي لم يكن عاماً، والإباحة لم تكن عامة في أول الإسلام،
فحيثما تحققت علة النهي منعت الكتابة، وحيثما زالت أبيحت الكتابة.
وأرى في حديث أبي شاه وفي حديث ابن عباس: «ايتوني بكتاب...» إذناً عاماً،
وإباحة مطلقة للكتابة، وعلى هذا لا تعارض بين جميع تلك الروايات، فقد سهل التوفيق
بينها، وتبين وجه الصواب. وانتهى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإباحة
الكتابة، وسنرى فيما بعد بعض ما دوِّن في عهده صلى الله عليه وسلم.
-
الوجيز في علوم الحديث: د. محمد الخطيب.
-
انظر: قواعد التحديث من علوم الحديث: الشيخ جمال الدين
القاسمي.
-
مقدمة ابن الصلاح: الإمام ابن الصلاح.
طباعة
ارسال