قال الله عز وجل :﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ * مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾(الأعراف: 175- 178)
وقد اختلف المفسرون في تعيين هذا الإنسان على أقوال ، أقربها إلى الحقيقة- على ما قيل- أن يكون صاحب هذا النبأ ممَّن كان للعرب إلمامٌ بمُجْمَلِ خبره كأميَّةَ بن أبي الصَّلْت الثقفي ؛ وذلك أن أميَّة كان- فيما روي عنه- ممن أراد اتِّباعَ دينٍ غير دين الشرك ، طالبًا دينَ الحق ، ونظر في التوراة والإنجيل ، فلم يرَ النجاة في اليهودية ولا النصرانية ، وتزهَّد وتوخَّى الحنيفية دينَ إبراهيم- عليه السلام- وأخبر أن الله يبعث نبيًّا في العرب ، فطمع أن يكونَ هو ذلك النبي ، ورفض عبادة الأصنام ، وحرَّم الخمر ، وذكر في شعره أخبارًا من قصص التوراة ، وكان يقول :
كل دين يوم القيامة عند ** اللَّه إلا دينَ الحنيفية زُورُ
فلما بُعِثَ محمد صلى الله عليه وسلم ، أَسِفَ أن لم يكن هو الرسول المبعوث في العرب . وقد اتفق أن خرج إلى البحرين قبل البعثة ، وأقام هنالك ثماني سنين ، ثم رجع إلى مكة ، فوجد البعثة ، وتردَّد في الإسلام ، ثم خرج إلى الشام ، ورجع بعد وقعة بدر ، فلم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم حَسَدًا ، ورَثَى من قُتِلَ من المشركين يومَ بدر ، وخرج إلى الطائف بلاد قومه ، فمات فيها كافرًا سنة ثمان ، أو تِسع . ولموته قصَّة طويلة أخرجها البُخَارِيُّ فِي تاريخه ، وَالطَّبَرَانِيُّ ، وغيرهما . وعن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل ، وكاد ابن أبي الصَّلْت أن يُسْلِمَ » . وروَى الفَاكِهِيُّ وابنُ مَنْدَهْ ، من حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما : أن الفَارِعَةَ بنتَ أبي الصَّلْت ، أختَ أُمَيَّةَ أتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنشدته من شعره ، فقال :« آمن شعره ، وكفر قلبه » . يريد أن شعره كشعر المؤمنين ؛ وذلك أنه يوحِّد الله في شعره ، ويذكُر دلائل توحيده من خلق السموات والأرض ، وأحوال الآخرة ، والجنة والنار ، والثواب والعقاب ، واسم الله وأسماء الأنبياء .
وذهب كثير من المفسرين إلى أن هذا الإنسان هو رجل من الكنعانيين ، كان في زمن موسى عليه السلام ، يقال له : بَلْعَامُ بْنُ بَاعُور . أو بَلْعَمُ بْنُ بَاعُوراءَ ، وكان عالمًا من علماء بني إسرائيل- كما روي عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد رضي الله عنهم- وذكروا قصته فخلطوها وغيَّروها واختلفوا فيها . وقيل : كان من الكنعانيين أُوتِيَ علمَ بعض كتاب الله ؛ ولكنه كفر به ، ونبذه وراء ظهره ، فلحقه الشيطان ، وصار قرينًا له ، فكان من الغاوين الضالين الكافرين .
ضرب الله تعالى لهذا الإنسان الذي وصف من حاله ما وصف مَثَلاً بالكلب اللاهث ، فقال سبحانه :﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ﴾ . أي : مثله كهذا المثل . بمعنى : أن مثله يشبه هذا المثل . فالأول مشبَّه ، والثاني مشبَّه به . وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس ، وكلاهما معنى موجود في الذهن . والمقصود منه بيان أن من أوتي الهدى ، فانسلخ منه إلى الضلال والهوى والعمى ، ومال إلى الدنيا حتى تلاعب به الشيطان ، كان منتهاه إلى الهلاك ، وخاب في الآخرة والأولى . والله تعالى ذكر قصته ؛ ليحذر الناس من مثله .
فهذا هو مثل العالم الذي يؤثر الدنيا على الآخرة ، وهو شَرُّ تمثيلٍ في أنه قد غلب عليه هواه ، حتى صار لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ، بكلبٍ لاهثٍ أبدًا ، حُمِلَ عليه ، أو لم يُحْمَل ، فهو لا يملك ترك اللَّهَثان . قال مجاهد :« أي : إن تحمل عليه بدابتك أو رجلك يلهث ، أو تتركه يلهث .. وكذلك من يقرأُ الكتابَ ولا يعملُ بما فِيهِ » .
ومعلوم أن إيثار الجملة الاسمية على الفعلية ، بأن يقال :( فَصَارَ مَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ.. الخ ) ، للإيذان بدوام اتصافه بتلك الحالة الخسيسة ، وكمال استقراره واستمراره عليها . قال السدي وغيره :« إن هذا الرجل عوقب في الدنيا بأنه يلهث ؛ كما يلهث الكلب ، فشبه به صورة وهيئة » . وقال الجمهور :« إنما شبه به في أنه كان ضالاً قبل أن يؤتَى الآيات ، ثم أوتيها ، فكان أيضًا ضالاً لم تنفعه ، فهو كالكلب في أنه لا يفارق اللهث ، في حال حمل عليه ، أو لم يحمل عليه » .
ومن الواضح أن التشبيه ليس هو بين هذا الإنسان ، والكلب ؛ وإنما هو بين مثله ، ومثل الكلب . ومثله يعني : المماثل له في تمام أحواله وصفاته ، وكذلك مثل الكلب . ولو كان المراد تشبيه هذا الإنسان بالكلب ، لوجب أن يقال :( فهو كالكلب ) ، وما أكثر الناس الذين يشبهون الكلاب ، وهم موجودون في كل زمان ومكان .
وقيل : التشبيه في المثل هو تشبيهٌ للهيئة المنتزعة مما اعترى هذا الإنسان- بعد الانسلاخ من الآيات- من سوء الحال ، واضطرام القلب ، ودوام القلق والاضطراب ، وعدم الاستراحة بحال من الأحوال ، بالهيئة المنتزعة مما ذكر من حال الكلب . وذكر ابن عاشور أن هذا التمثيل من مبتكرات القرآن ؛ فإن اللهث حالة تؤذن بحرج الكلب من جرَّاء عسر تنفسه عن اضطراب باطنه ، وإن لم يكن لاضطراب باطنه سبب آت من غيره .
والكلب- مع ما عرف عنه من أمانة وإخلاص وذكاء- هو من أخبث الحيوانات ، وأوْضعها قَدْرًا ، وأخسِّها نَفْسًا ، وأشدِّها شَرَهًا وحِرْصًا . ومن شدة حرصه وشرهه- كما قال ابن القيم- أنه لا يمشي إلا وخَطْمُه في الأرض ، يَتشَمَّم ، ويسترْوح حرصًا وشرهًا ، ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزائه ، وإذا رميت إليه بحجر رجع إليه ؛ ليعضَّه من فرْط نهمته . وهو من أمْهَن الحيوانات ، وأحْملِها للهَوان ، وأرضَاها بالدنايا . والجِيَفُ القذرةُ المُرْوِحَةُ أحبُّ إليه من اللحم الطَّريِّ ، وإذا ظفر بميْتة تكفي مائةَ كلب ، لم يدع كلبًا واحدًا يتناول منها شيئًا ، إلا هرَّ عليه وقهره ؛ لحرصه وبخله وشرهه . ومن أبرز صفاته الذميمة التي لا تفارقه إنكارُه الضيف ، واللَّهَثُ على أيِّ حال .
وقال السيوطي في الدر المنثور :« أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج ، قال : الكلب منقطع الفؤاد ، لا فؤاد له ؛ مثل الذي يترك الهدى ، لا فؤاد له ؛ إنما فؤاده منقطع ، كان ضالاًّ قبل وبعد » . وقال ابن قتيبة :« كل شيء يلهث ؛ فإنما يلهث من إعياء ، أو عطشًا ، إلا الكلب ، فإنه يلهث في حال الكَلال ، وحال الراحة ، وحال الصحة ، وحال المرض والعطش ، فضرَبه الله مَثلاً لمن كذَّب بآياته » .
وفي تشبيه مَثلِ هذا الضال في حال لهفه على الدنيا ، بمثل الكلب في حال لهثه ، سِرُّ بديع ، وهو أن الذي مَثلُه فيما ذكره الله تعالى من انسلاخه من آياته ، واتِّباعه هواه ؛ إنما كان لشدة لهفه على الدنيا ، لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة ، فهو شديد اللَّهَف عليها . ولهَفُه نظير لهث الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه ، فإنه في الكلاب طبع ، لا تقدر على نفض الهواء المتسخِّن ، وجلب الهواء البارد بسهولة لضعف قلبها ، وانقطاع فؤادها ، بخلاف سائر الحيوانات ، فإنها لا تحتاج إلى التنفس الشديد ، ولا يلحقها الكرب والمضايقة إلا عند التعب والإعياء .
والجملتان الشرطيتان :﴿ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ﴾ تفسير لما أبهم في المثل ، وتفصيل لما أجمل فيه ، وتوضيح للتمثيل ببيان وجه الشبه ، على منهاج قوله تعالى :﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ ، إثر قوله تعالى :﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ ﴾ .
وتحدث الدكتور كارم السيد غنيم الأستاذ بكلية العلوم – جامعة الأزهر- تحدث في مقال له ( الكلب في حياة الإنسان ) عن لهــث الــكلب من الناحية الفسيولوجية ، فقال :« تبلغ درجة الحرارة الطبيعية لجسم الكلب ( 38.6م ) ، وهى أعلى من درجة جسم الإنسان المعتادة ، والبالغة ( 37م ) . وإذا كان جسم الإنسان يفرز عرقًا من غدده العرقية من أجل تبريد الحرارة ، إذا ارتفعت عن الدرجة المعتادة ، فإن الكلب يسلك مسلكا آخر هو ( اللهث ) ، فيخرج لسانه ويلهث حتى عند الراحة ، فيلهث بسرعة ( 10- 30 ) لهثه ، أو نَفَس في الدقيقة ؛ ولكن بعد بذل مجهود أو التعرض لخطر ما ، فإنه يلهث بأكثر من عشرة أضعاف هذا المعدل . ويضطر الكلب لأن يلهث ، في التعب والراحة ، لعدم وفرة غدده العرقية التي لا توجد سوى في وسادات أقدامه ، فهي لذلك لا تسهم في خفض درجة حرارة جسمه إلا بقدر ضئيل .
ولمزيد من التفصيل ، فإن تدلى لسان الكلب وفتح فمه أثناء اللهث ، يؤدي إلى إدخال أكبر كمية ممكنة من الهواء الجوي إلى الجهاز التنفسي ، وخلالها يتم تبخير جزء من الماء الموجود في الأنسجة التي يمرّ فيها الهواء ، وبالتالي تنخفض درجة حرارة الجسم ... كما يسلك الكلب مسلكًا مساعدًا ، فيلحس أرجله من جسمه ، ويبلل لسانه بلعابه ، فيتبخر هذا اللعاب ، وهو ما يفيده في خفض درجة حرارة جسمه » .
رابعًا- وقوله تعالى :﴿ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا ﴾ إشارة إلى المَثَل المذكور بقوله تعالى :﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ﴾ . أي : ذلك المثل السَّيِّء هو مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا . قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد أهل مكة ، كانوا يتمنون هاديًا يهديهم ، وداعيًا يدعوهم إلى طاعة الله ، ثم جاءهم من لا يشكُّون في صدقه وديانته فكذبوه ، فحصل التمثيل بينهم ، وبين الكلب الذي إن تحمل عليه يلهث ، أو تتركه يلهث ؛ لأنهم لم يهتدوا لما تركوا ، ولم يهتدوا لما جاءهم الرسول ، فبقوا على الضلال في كل الأحوال ؛ كمَثل هذا الكلب الذي بقي على اللهث في كل الأحوال .
وقيل : هم اليهود ، حيث أوتوا في التوراة ما أوتوا من نعوت النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر القرآن المعجزة وما فيه ، فصدقوه ، وبشروا الناس باقتراب مبعثه ، فلمَّا جاءهم ما عرفوا ، كفروا به ، وانسلخوا من حكم التوراة . وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ﴾(البقرة: 89) .
والظاهر أن المراد بقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا ﴾ العموم ، فيعم جميع المكذبين بآيات الله سبحانه ، ويدخل في ذلك العموم اليهود ، وأهل مكة دخولاً أوليًّا ، وفُرِّع على ذلك الأمرُ بقوله تعالى :﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ . والقصص مصدر سمِّي به المفعول . واللام للعهد . والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها . أي : إذا تحقق أن المثل المذكور مثل هؤلاء المكذبين ، فاقصصه عليهم حسبما أوحي إليك ، لعلهم يتفكرون ، فيقفون على جلية الحال ، وينزجرون عمَّا هم عليه من الكفر والضلال ، ويعلمون أنك قد علمته من جهة الوحي ، فيتعظون ، ويؤمنون ؛ فإن في القصص تفكُّرًا وموعظة ، وإن للأمثال واستحضار النظائر شانًا عظيمًا في اهتداء النفوس بها ، وتقريب الأحوال الخفية إلى النفوس الذاهلة أو المتغافلة ، لمَا في التمثيل بالقصة المخصوصة من تذكُّر مشاهدة الحالة بالحواس ، بخلاف التذكير المجرد عن التمثيل بالشيء المحسوس .
وقوله تعالى :﴿ سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ ﴾ استئناف بياني ؛ لأنه جُعِل إنشاءُ ذمٍّ لهم ، بأن كانوا في حالة شنيعة ، وظلموا أنفسهم بتكذيبهم بآيات الله تعالى . وفي ذلك إشارة إلى أن التكذيب منهم سجيَّةٌ وهيئةٌ نفسانيَّة خبيثة لازمة ، فلا تزال آيات الله تعالى تتكرر على حواسهم ، ويتكرر التكذيب بها منهم . وفيه أيضًا إعلام لهم بأنهم لا يضرون شيئًا في هذا التكذيب ؛ بل ذلك ظلمٌ منهم لأنفسهم .
المصدر : موقع الإعجاز العلمي
طباعة
ارسال