وعلى ضوء القواعد التي مرت معنا في الفصل السابق، أقول لمن أراد أن يحفظ صفحة من القرآن الكريم من أيّ سورة: آمل أن تسير معي لنقرأ الخطوات التالية سَوِيّةً بهدوء تمهيداً لتطبيقها بدِقَّةٍ:
1-احرصْ على اقتناء نسخة من القرآن الكريم جيّدة، حجْمها على حسب رغبتك، ولا تبدّلْها أبداً؛ من أجل أن تتمكن من حفظ أماكن الصفحات والأسطر، ويُفضَّلُ مصحف الحفاظ الذي يبدأ أول الصفحة بأول الآية وتُختم الصفحة فيه بآخر الآية، وهو مقسم تقسيماً جيداً، حيث إن القرآن ثلاثون جزءاً، والجزء عشرون صفحة والصفحة خمسة عشرة سطراً، وقد تَبَنَّى مجمَّع الملك فهد في المدينة المنورة طباعة هذه النسخة، فأنصح باقتنائها، لأنها من أضبط الطبعات المعاصرة.
2- تهيئة الجلسة لأجل الحِفْظ وهي تتم كما يلي:
أ-التهيئة النفسية، وذلك باستحضار النية الحسنة والرغبة في الثواب عند الله.
ب- الوضوء والطهارة الكاملة، ولا تترخَّصْ بما يُفتَى به على خلاف ذلك، فذلك من الخلاف الذي لا يتناسب مع تعظيم كلام الله والأدب معه.
ج- الجلوسُ في مكان تستريح له نفسك روحياً، ولا يوجد أرقى من المسجد.
د- يفضل ألّا يكون المكان كثير المناظر والنقوش والزخارف والشواغل، وكلما كان المكان محصوراً- مع ملاحظة كون الهواء فيه متجدداً ونقياً- كان أفضل من الاتساع والأشجار والبساتين، وإن كان البعض قد يخالفني في هذا، ولكنني أقول من خلال تجربة، لا من وَحْي خَيَال، فإنَّ جوَّ المطالعة الحرَّة يختلف عن جوِّ الحِفْظ والتركيز، وإنَّ سَعَةَ المكان وكثرةَ المناظر والأشجار تُشَتِّتُ الذِّهْن، وتُبَدِّدُ التركيز، وتصلح للمطالعة الحرة التي لا تحتاج إلى جهدٍ وتركيزٍ، كما سبق بيانه في القاعدة الرابعة.
هـ- استقبال القبلة، والجلوس بخشوع، وسكينة، ووقار.
3- البدء بـ (عملية التَّسْخين والتَّحْمِيَة) إن صَحَّ التعبير، وهي الاستعداد، وذلك بأن تبدأ بقراءة صفحات من القرآن قبل أن تبدأ بعملية الحِفْظ، سواء كان ذلك غيباً أم نظراً، وتترنَّمَ في قراءتها مُسْمِعاً نفسك دونما إسراعٍ أو إبْطاء، وهذه العمليّة هي العمدة في تهيئة النفس، وإن كثيراً من المَحفِّظين الناجحين لا يسمح للطالب أن يحفظ قبل أن يراجعَ الماضي ويُسمَّعَه على الشيخ، وما ذلك إلا ليُهَيَّئه نفسيّاً وروحياً للحِفْظ، وقد لا يَتَنبَّه الطالبُ إلى هدف الأستاذ.
4- حَذارِ أن يستهويَك جمالُ صوتك (هنا) فتحلِّقَ في جِوَاءِ النَّغَم وتستوليَ عليك لذَّةُ الطرب، فتتخيل أنك المقرئ (الفلاني) ثم تتقمَّص شخصيته، وتبدأ تُرتّل وتجوِّد وتمطّط الحروف، وتعيد وتكرر على طريقة بعض القراء، وربما زاد بك الأمرُ فأحضرت (المايكرفون) وعدة التسجيل، فإنّ الوقتَ سيضيعُ عليك وأنت لا تدري، فتكون كذلك الشابّ الذي كان يرغب في حِفْظ القرآن، وكلما يرغب في حِفْظ القرآن، وكلما جَلَسَ ليحفظ فتح القرآن على سورة يوسف وبدأ يترنم بها، حتى ضاع الوقتُ عليه ولم يحفظْ شيئاً.
5- بعد حوالي (10- 15) دقيقة من عملية التسخين والاستعداد النفسيّ، فإنك ستُحِسُّ برغبة شديدة في الحِفظ في داخلك، عندها بإمكان أن تبدأ بالصفحة الجديدة التي تريد حِفظها.
6- وهنا تبدأ مرحلة مهمّة، فعليك أن تركِّز تركيزاً مضاعفاً بنظرك على الآيات، وأن تتصور أن هذه العين هي عدسة تصوير، وأنك تريد أن تصور هذه الصفحة بالصَّوت والصُّورة، فحذارِ من اهتزاز آلة التصوير.
7- فتحْ عينيْك جيّداً، وفرِّغ الذِّهنَ من أي شاغلٍ، واقرأ بالنظر أول آية من رأس الصفحة بصوت مسموع مجوَّد، قراءةً صحيحة مركزة، ولنأخذ مثالاً على ذلك: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة:142] اقرأها ثلاث مرات- أو زِدْ على ذلك- حتى يستوعِبَها عَقْلُكَ، ثم أغمضْ عينيك وتَصَوَّرْ في ذاكرتك مواضع الكلمات واقرأها، فإن نجحتَ بقراءتها كاملة بدون أيّ خطأ، فلا تفرحْ بل كرِّرْها مرتين وثلاثاً وخمساً.
8- ثم افتْح عينيْك مرَّةً ثانية، واقرأ الآية نفسها من المصحف للتَّأكُّد من صحَّةِ حِفظك، فإذا تأكدتَّ (مائة بالمائة) بأنك حَفِظْتَهَا حِفْظاً صحيحاً، فلا تفرحْ أيضاً، إنما أغمضْ عينيْك واقرأها للمرة الأخيرة، وبهذا تكون قد نَقَشْتَهَا في ذاكرتك نقشاً لا يمكن أن يزول بإذن الله تعالى، وجَرَّبْ هذه الخطوات بدقَّةٍ، فإنك ستجد صحة هذه النظرية.
تنبيه:
أثناء عملية الإعادة والتَّكرار حذارِ أن تشتِّتَّ نظرَك فيما حولك من الأشياء، كاللوحات الخطية المتناثرة في الجدران، والمُلْصقات، والتُّحَفِ والزخارف الفنيّة، ولا تُتابع مِروحة الهواء وهي تدور، ولا تهتمَّ بنوعيّة الأثاث أو الفراش الذي تجلسُ عليه، وحذار من فضول النظر إلى ما وراء النوافذ، فربما تقع عينُك على ما لا يَسُرُّ، وربما يستهويك مشهدُ الناس في الشارع، ومشهدُ السيارات، كما يحصل للطلاب أثناء مذاكراتهم لإختباراتهم فيقف الواحد منهم على النافذة بحجة استنشاق الهواء النقيّ فإذا به يبدأ بعملية إحصاء للسيارات حسب أنواعها، وموديلاتها... وكذلك وإذا بالوقت يمضي ويضيع وهو لم يستفدْ شيئاً.
فلا شأنَ لك- أخي- بكل تلك الشواغل، فقد رشَّحْتَ نفسك لتكونَ من أهل القرآن ومن حفَّاظه، وذلك يحتاج إلى همَّةٍ ودَأَبٍ، وتركيزٍ وعدم انشغال.
9- بعد ذلك مباشرة انتقل إلى الآية التي تليها: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا..﴾ وابدأ بنفس الخطوات التي خطوتها في الآية السابقة، فإن رأيت الآية طويلة، فقسِّمْها إلى عِدَّة أقسام تتناسب مع الوقف الصحيح الحسن، والمعنى المستقيم، ثم كَرِّرْ مراراً حتى تُنْقَشَ في ذهنك نقشاً.
10- ابدأ الآن بـ (عملية الرَّبط) التي ذكرتها في القاعدة الثامنة من قواعد الحفظ، وذلك بأن تفتحَ المصحف، وتدقق النظر في آخر الآية الأولى- على سبيل المثال- ﴿... إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ وتقرأها بصوت مسموع ثم تصلها بسرعة- بدون أي توقف- بأول الآية الثانية ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ كرر هذه العملية مراراً لا تَقِلُّ عن خمس.
بعد قراءتك هذه الخطوات- إن كانت أعجبتك- ابدأ مباشرة بالتنفيذ، وسجل في دفتر خاص تاريخ البدء بالحفظ، واتصل بشخص تحبُّه وتثق به، وأخبر ه أنك وجدتَّ طريقة في حفظ القرآن، وأنك بدأت بتطبيقها اليوم، لعلك تكون دالاً على الخير. ومن فائدة هذا الاتصال أنه يكون حافزاً لك على الحفظ والمتابعة؛ إذ أنه يعكس على نفسك الداخلية مزيداً من الاقتناع بما قرأت.
وهذا ما هو مقرر في علم النفس: أن الإنسان إذا فعل أمراً مَا ثم أقنع به شخصاً آخر فكأنه يتخذ حصوناً دون تراجعه عن ذلك الأمر، ويعطيه هذا التصرف مزيداً من الاقتناع بما يفعل. ويمكن تلخيص هذه الطريقة بهذا المخطط:
1-التهيئة النفسية |
2- التسخين |
3- التركيز |
4- التكرار |
5- الربط |
النتيجة= حفظ متين بطريقة مُثلى |
* المصدر:
كيف تحفظ القرآن الكريم: د. يحيى غوثاني.
طباعة
ارسال