إن لزومَ الطاعات ينير القلب، ويبعثُ على السكينة، وبالتالي يؤدّي إلى
صفاء الذهن واستعدادِه للحفْظ، بخلاف القلبِ المظْلِمِ بالمعاصي، فإن الله يعاقب
مرتكبَ المعصية بسَلْب نعمة العلم والحفظ.
وقد رُويَ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إني لأحسَبُ
الرَّجُلَ يَنسَى العِلْمَ كانَ يعْلَمُهُ بالخطيئة يَعْمَلُها.
وسئل سُفيانُ بن عُيينة: هل يُسلبُ العبدُ العِلْمَ بالذنبِ يُصيبُه؟ قال:
ألم تسمعْ قوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم
مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ ﴾ [سورة المائدة:
13] وهو كتاب الله، وهو أعظمُ العِلْم، وهو حَظُّهم الأكبر الذي صارَ لهم،
واختصُّوا به، وصارَ حجةً عليهم.
وسُئِلَ الإمام مالك رضي الله عنه: هل يَصْلُحُ لهذا الحفظ شيءٌ...؟ فقال:
إنْ كانَ شَيْءٌ فَتَرْكُ المعَاصي.
وقال عليُّ بن خَشْرَمٍ لوكيع بن الجرّاح: إني رجلٌ بليدٌ، وليس لي حفظٌ،
فعلِّمْني دواءً للحفظ، فقال وكيعٌ: يا بُنَيَّ واللهِ ما جرَّبْتُ دواءً للحفظ
مثل تركِ المعاصي.
هذه توجيهاتُ سَلفنا الصالح رضي الله عنه في هذه القضية، ولعلَّ من
المناسبِ أن نستشهدَ بقول الإمام الشافعيّ – رحمه الله - :
شَكَوْتُ إلى وَكيعٍ سُوءَ حِفْظِيفأرْشَدَني
إلى تَرْكِ المعَاصِي
وأخْبَرَني بأَنَّ العِلْمَ نُورٌونورُ الله لا يُهْدَى لِعَاصِي
فلا شَكَّ أن لُزومَ الطاعات من العمل بهذا القرآن الذي نحفظه، وقد وَرَدَ
التحذيرُ الشَّديدُ من العِلْم بدون عمل: قال تعالى: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [سورة الصف: 3].
وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أوَّلُ النَّاسِ يُقضَى فيه يومَ
القيامةِ ثلاثةٌ: إلى أن قال: ... ورجلٌ تعلَّمَ العِلْمَ وعَلَّمَه، وقرأَ
القرآنَ، فأَتِيَ به فَعَرَّفَه نِعَمَهُ فعَرفَها، فقال: فما عَمِلْتَ فيها؟ قال
تَعَلَّمْتُ فيك العلْمَ وعَلَّمُتُه، وقَرَأتُ القُرآنَ، قال: كَذَبْتَ، ولكن
ليُقال: هو قارئٌ، فقدْ قِيلَ، ثمَّ أُمِرَ به فسُحِبَ على وجْهِهِ حتى أُلْقِيَ
في النار».
والإسلامُ ربطَ ما بين العِلْم والعَمَل، فالعَمَلُ بالآيات التي تحفظُها
يثبِّتها في ذهنك، وكيف يفتح الله عليك بالحفظ ما لم يكن القرآن واقعاً عملياً في
حياتك اليومية...!!
قال سُفيانُ الثوريُّ: يَهتِفُ العِلْمُ بالعَمَل، فإن أجابَه وإلا
ارتَحَل.
قال الإمامُ الغزالي: ولو قرأتَ العِلْمَ مائة سنةٍ، وجَمَعْتَ ألفَ كتابٍ
لا تكونُ مُسْتَعِدّاً لرحمة الله تعالى إللا بالعمل.
قال تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ
لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [سورة النجم:39].
وقال وَكيعٌ: كنا نستعينُ على حفظ الحديث بالعمَلِ به، وكنا نستعينُ على
طَلَبِهِ بالصَّوْم.
وهذه القاعدة قاعدة مُهمَّة جداً قبل الحفظ وبعده، ففي البداية لا بُدَّ
للإنسان أن يكون مُسْتَعِدّاً للحفظ، وذلك بتطهير جوارحه من المعاصي، وتَحْليتها
بالطاعات: فالعين التي تريدُ – أخي الحبيب – أن تحفظَ بواسطتها كلامَ الله
عز وجلّ، لا ينبغي أن تنظرَ إلى ما حرَّم الله، والأذن التي تَعِي كلامَ
الله لا ينبغي أن تُصْغيَ للهو الحديث الذي نَهَى الله عنه.
وقلبك الذي ترجو أن يكون وعاءً لكتاب الله – جل جلاله – ينبغي أن
يكون نظيفاً طاهراً بعيداً عن المكدِّرات، صافياً كالمِرْآة المصقولة، وفَّقَني
الله وإياكَ لما فيه رِضَاه، ورَزَقَنا في الحياة الدُّنيا اتباعَ هُدَاه.
* * *
طباعة
ارسال