من الأركان الأساسيّة في عمليّة فظ القرآن الكريم الارتباطُ بالأستاذ،
ولهذا الارتباط أهمِّيَّةٌ لا ينبغي أن تُغفل؛ لأن القرآنَ يعتمدُ على التلقّي في
الدرجة الأولى، والمتلقّي في بداية أمره بحاجة ماسَّة إلى من يُوجِّهُهُ ويأخذ
بيده إلى الطرق الْمُثْلَى في الحفظ، مبتدئاً بتصحيح القراءة على لشيخ، وهو ركن
مُهمٌ بالنسبة للمتلقّي الذي هو بحاجة لبعض التوجيهات القرآنية التي تربط الآياتِ
مع مناسبتها مثلاً.
ومن الأشياء المهمَّة المفيدة التي يستفيدها الطالب في
المرحلة الأولى: أن الشيخ يَحُلُّ له المشاكلَ التي تواجِهُهُ في عملية الحِفْظ،
ويُنَبِّهُهُ على الآيات التي يشتبه بعضها ببعض، ويذكِّرُه دائماً باللجوء إلى
الله، وحِفْظ القرآن ابتغاء وجه الله، ولا يخفى ما لهذه التوجيهات والتنبيهات من
أثر.
قال القابسيُّ: وقد مضى أمر المسلمين أنهم يُعَلِّمَون أولادهم القرآن
ويأتونهم بالمعلِّمين، ويجتَهِدُون في ذلك.
وتتأكَّدُ حاجة المتلقي للأستاذ في كونه «يَجْلو أفكارَ الناشئين والشباب،
ويُوقِظ مَشَاعرَهم، ويُحْيِي عُقولَهم، ويُرَقِّي إدراكَهم، إنه يُسَلِّحُهم
بالحق أمامَ الباطل، وبالفضيلة ليقتُلُوا الرذيلة، وبالعلم ليفتِكوا بالجهل، إنه
يملأ النفوس الخامِدةَ حياةً، والعقولَ النائمةَ يقظةً، والمشاعرَ الضعيفةَ قوةً،
إنه يُشعِلُ المصباحَ المنطفِئَ، ويُضيءُ المظلمَ، ويُنبِتُ الأرض المَواتَ،
ويُئْمِرُ الشَّجَرَ العقيم».
وإنَّ الجلسةَ بين يَدَيِ الشيخ المتقِنِ وهُو يسمَعُ لتلميذه حِصَّتَه
اليوميّة من الحفظ، لها أثر كبير في تربية النفس، والتدرُّبِ على تهذيبها:
قال لقمان الحكيم لابنه: «يا بنيَّ ما بَلَغْتَ من حِكْمَتِكَ؟ قال: لا
أتكلَّفُ ما لا يَعْنيني. قال: يا بنيَّ إنه بقيَ شيءٌ آخرُ، جالِسِ العلماءَ
وزاحِمْهُمْ بِركبَتْك؛ فإن يُحْيِي القلوبَ الميتةَ بالحكمة كما يُحْيِي الأرضَ
الميتةَ بوابِلِ لسماء».
كيف تختار الأستاذ؟
هناك أسس لاختيار الأستاذ ينبغي أن يتنبَّه لها المتلقِّي، منها:
1- البحث والنظر والتأمل، فعلى الطالب أن يبحثَ عن الشيخ الَّذي
تتحقّقُ فيه الشروط، وأن لا يتعجَّلَ في اختيار الشيخ إلا بعد التأكّدِ والتأمّل،
قال الزرنوجيُّ: واختارَ أبو حنفية حَمَّادَ بن سَلمة بعد التأمُّل والفِكْرِ.
أيْ: بعد تمهّل وتفكير.
وقال الزرنوجيُّ: قال الحكيمُ مرشِداً بعض طلبة العلم: إذا ذَهَبْتَ إلى
بُخارَى فلا تَعْجَلْ في الاختلاف [أي الذهاب] إلى الأئمة، وامْكُثْ شهرين حتى
تتأمَّل وتختارَ أستاذاً؛ فإنك إن ذهبتَ إلى عالم، وبدأتَ بالسَّبْق عنده ربما لا
يُعْجبُكَ دَرْسُهُ، فتتركه وتذهب إلى الآخر، فلا يبارَك لك في التعلُّم، فتأمَّلْ
في شهرين في اختيار الأستاذ.
2- أن تشاورَ الثقات، وتسألَ العارفين المتخصصين في عِلْم
القرآن والتجْويد، وهذا مبدأٌ إسلاميٌّ عامّ، ﴿وَشَاوِرْهُمْ
فِي الأَمْرِ﴾ [سورة الشورى: 38] وقيل: مَنْ شَاوَرَ أهْلَ النصيحة سَلِمَ من
الفضيحة.
3- استخارة الله تعالى، فما خَابَ من استشَارَ، ولا نَدِمَ
من استَخَارَ، قل ابن جماعة: ينبغي على الطالب أن يُقَدِّمَ النَّظَرَ، ويستخيرَ
الله عز وجل فيمنْ يأخذُ العِلْمَ عنه، ويكتسبُ حسن الأخلاق والآداب.
الشروط التي ينبغي أن تتوفر في الشيخ الذي تبحث عنه:
لا بُدَّ لطالب العلم – وخاصة القرآن – أن يضعَ نَصْبَ عينيه شروطاً
وصفاتٍ عند اختياره للشيخ الذي سيَحْفَظُ عنده، ومن هذه الشروط التي ينبغي أن يتصف
بها:
1- العقيدةُ الصَّحيحةُ، عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد ورد
عن بعض السلف: هذا العلم دِينٌ فانظروا عمَّن تأخذون دينكم.
2- وَفْرَةُ العِلْم، وأن يكون على دراية تامّة بالقرآن
الكريم، مع الإتقان، والتقوى، والصّلاح، والوَرَع.
3- أن يكون لديه القدرة على إيصال المعلومة للآخرين:
قال ابن جماعة مُجْمِلاً أهم الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الأستاذ:
ولْيَكُنْ – إن أمكن – ممن كَمُلَتْ أهليَّتُه، وتحقَّقَتْ شَفَقَتُه، وظهرتْ
مروءتُه، وعُرفتْ عفَّتُه، واشتُهِرَتْ صِيانُته، وكان أحسنَ تعليماً وأجْودَ
تفهيماً.
4- أن يكون حافظاً للقرآن الكريم متقيناً له، معروفاً بين أهل العلم
مُوَثَّقاً لديهم، متصلاً سندُهُ بسَنَدِهم، وأن يكونَ مجازاً بالقرآن الكريم، وإن
كان بالقراءات العَشْر فذلك أولى، ويفضَّل صاحبُ السند العالي، فإن لم يَجِدِ
الأستاذَ بهذه الصفات بعد البحث، فليختر الأفضل فالأفضلَ، فإن لم يجِدْ فبإمكان
الطالب أن يرتبط بأخٍ له حافظٍ للقرآن لعله يُعينه على الحفظ، لأن الإنسانَ عندما
يسمِّع ما حَفِظَ لنفسه قد يُخطئ وهو لا يدري ويحفظ الآياتِ بأخطائها التي ربما لا
يَتَنَبَّه لها إلا بعد مُدَّةٍ طويلة، وهيهاتَ أن تَتَعَدَّلَ معه بعد أن
انطبَعَتْ في الذِّهْن على الشَّكْل المغْلوط.
وإن من فائدة هذا الارتباط: أن الذي يريد الحِفْظ بحاجة إلى من يُثَبِّتُه
ويُشَجِّعُه، ويأخذ بيده ليستمرَّ إلى أن يختم بإذن الله تعالى.
لذلك فإنني أؤكد على ضرورة الاتباط بالشيخ بهذه الشروط التي ذكرتُها، وألا
يُكتفَى بالشيخ الذي لديه إجازة، بل لا بُدَّ أن تكون قراءتُه متقنةً أيضاً، كما
أنه لا يُكتفَى بالمتقِن فقط فينبغي أن يكون مُجازاً.
كتاب (كيف تحفظ القرآن الكريم: د.
يحيى غوثاني).
طباعة
ارسال