إن
لاختيار المكان أثراً في عملية الحفظ، لذلك يُفضَّل ألاّ يكون المكان كثير المناظر
والنقوش والزخارف والشواغل، وكلما كان المكان محصوراً - مع ملاحظة كون الهواء فيه
متجدداً ونقياً- كان أفضل من الاتساع والأشجار والبساتين، لأن العين عند ذلك تسرح
وتمرح.
وقد
جاءت بهذا وصايا عن بعض أسلافنا الذين لهم قصب السبق في كثير من القضايا التربوية
الحديثة:
قال
الخطيب البغداديّ: اعلم أن للحفظ أماكن ينبغي للمُتحفَّظِ أن يلزمها، وأجود أماكن
الحفظ: الغُرَفُ دون السُّفْل، وكلُّ موضعٍ بعيد ممَّا يُلهي، وخلا القلبُ فيه مما
يُفزعُهُ فيَشغله أو يَغلب عليه فيمنعه ...وليس بالمحمود أن يتحفظ الرجل بحضرة
النبات والخضرة، ولا على شطوط الأنهار، ولا على قوارع الطرق، فليس يعدم في هذه
المواضع- غالباً- ما يمنع من خلوَّ القلب وصفاء السرَّ.
وقال
ابن الجوزي: ولا ينبغي أن يتحفَّظ على شاطئ نهر، ولا بحضرة خضرة؛ لئلاَّ يشتغل
القلب.
والحفظُ
والتركيز يختلف عن المطالعة الحرَّة، وإنَّ سعة المكان وكثرة المناظر والأشجار
تُشتَّتُ الذَّهن، وتُبدَّدُ التركيز، وتصلحُ للمطالعة الحرَّة التي لا تحتاج إلى
جهد وتركيز، كقراءة كتاب تاريخيّ، أو قصة.
وإن
أفضل مكان نؤكد عليه هو المسجد؛ لأن الإنسان يحافظ في المسجد على منافذ القلب
الثلاثة:
العين،فلا
يرى المحرمات.
والأذن،
فلا يسمع ما لا يرضي الله عز وجلّ.
واللسان،
فلا يتكلم إلا بخير.
وهذه
المنافذ الثلاثة تمثَّل بمجموعها الأداة التي يُحفظُ بها القرآن، فإذا كانت سليمةً
نظيفةً كان الحفظُ جيداً ومتقناً.
ومما
يلحق بهذه القاعدة: الحفظُ مشياً بين عمودين أو زاويتين من زوايا المسجد، فإن
المشيَ يساعدُ كثيراً على بعث النشاط في الأعضاء إن أصابها الفتور، ويكون المشي
أشبه ما يكون بعملية شحن (للبطارية).
وإن
المشي يصلح للمراجعة بشكل جيّد، وذلك إذا كان بيدك مصحف تفتحه كلما توقفتَ أو
تلكأتَ.
ومما
يُلحق بهذا من بعض الوجوه: أن من إحدى طرق حفظ القرآن أن يقترن حفظك بمكان من
الأمكنة، فعلى سبيل المثال خصَّص غرفة المكتبة لحفظ سورة الإسراء، والمسجد لسورة
النحل، فإن صورة المكان تنطبع في الذهن وتنطبع معها تلك السورة فلا تغيب عن الذهن،
وبذلك تستطيع أن تُثبَّتَ حفظك بملاحظتك هذا الأمر من البداية.
وما
حادثة نزول القرآن على المصطفى r في غار حراء، واقترانهابذلك المكان المحبَّب له r عنا بغائبة، فلقد انطبعت الآيات التي سمعها على قلبه مقرونة بذلك
الغار.
ولنا
في نزول القرآن في مكة، وبعضه في المدينة، وبعضه على جبل كذا، وبعضه في بيت عائشة،
أعظم دليل.
وقد
أُثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «ما أنزلتْ سورة من كتاب الله إلا
وأعلمُ أين نزلت...».
فيا
أخي الحبيب:
إذا
أكرمك الله بزيارة للعمرة - مثلاً- فخَصَّصْ جزءاً من القرآن تحفظه في الحرم
المكيّ هناك بجانب الكعبة المكرمة، وإذا زرتَ مسجدَ رسول الله r فاجعل لنفسك جزءاً تحفظه في الروضة الشريفة، فإن حفظك يقترن مع
هذه الأماكن، ولا سيما وهي الأماكن المطهرة، فعند مراجعتك تجدها قويّة ثابتةً؛
لأنك لاحظتَ هذه الناحية.
وقد
ذكر ابن جبير أنه أتم حفظ القرآن في رحلته عندما كان في صحراء مصر، عند بئر ماءٍ
عذبٍ. لاحظ هذه الذكرى ما أجملها!
تنبيه:
ينبغي
عليك ألاَّ تحفظ بجانب مرآةٍ، لئلا تشتَّتَ ذهنك في الحفظ، فإن الشيطان يشغلك
بالنظر إليها، ويُفتَّقُ لك الأفكار حتى يُلهيك عن حفظ القرآن.
ولكن
يُنصحُ بالاستفادة من المرآة في معرفة مخارج الحروف، وصفاتها، وذلك بالنظر فيها
إذا أردتَّ أن تصحّحَ نطقك للمخارج؛ وذلك حتى تلاحظ حركة الشفتين، ومواضع اللسان في
النطق بالحروف، فإن للمِرْآةِ دوراً لا يُستهان به في ملاحظة الدَّقَّة في إخراج
الحروف من مخارجها.
وقد
علمتُ - لاحقاً- أن بعض معاهد اللّغات يُوصون بها ويستعملونها في المعامل الصوتية؛
لما لها من فائدة في هذا الجانب.
طباعة
ارسال