تختلف النفوس سعة وضيقا كما تختلف الغرف والمنازل والأماكن؛ فمن الناس من تضيق نفسه حتى تكون كسم الخياط، ومنهم من تتسع نفسه حتى تشمل العالم وما فيه ، فيكون رحمة للناس كلهم ، كما كان سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام.
تضيق النفوس بالجهل وقلة العلم والتجارب، ثم بالعلم والتجربة وقبل ذلك الإيمان تتسع وتكون نفسا مشرقة تحب الناس والخير والجمال.
وفائدة التربية الحسنة توسيع النفوس، فكل موضوع تتعلمه يزيد من اتساع نفسك ، كما يزيد من اهتماماتك النافعة، فإذا قرأنا التاريخ مثلا زاد شعورنا بالأجيال المختلفة على تعاقبها ، واتصلت نفوسنا بالعالم على توالي العصور، وارتبطت بعظماء الرجال على نحو ما، فكان ذلك كله عنصرا هاما لسعة النفوس، وكذلك كل فن نتعلمه ، وكل علم نتقنه يساعد في اتساع نفوسنا ؛ ويجعل همنا واهتمامنا كبيرا ومفيدا.
وكما تتسع نفس الإنسان بعلمه بالشيء تتسع قدرته ونفوذه، فالمهندس يرى في الأبنية ما لم نر، ويقرأ في أحجارها وأخشابها وأوضاعها ما لم نقرأ؛ ويُخرج إلى الوجود من المشروعات والتصميمات ما لم نستطع، وقس على ذلك كل صاحب فن متقن لفنه وعلمه.
هناك وسائل كثيرة لتوسيع النفس، أكثرها شيوعا مزاولة الأعمال والعلوم بمختلف أنواع الأعمال وأصناف العلم، فالممارسة والتجارب تنمي الخيال وتزيد الانتاج.
وكلما يباشره الانسان ويتصل به يكون جزء من نفسه، فبيتك الذي تسكنه، وأثاث منزلك ومالك وممتلكاتك، كل هذا يتحد مع نفسك ويكون جزء منها، من تعدى عليه فقد تعدى على نفسك، ومن عاب بيتك أو أثاثك أو صناعتك فقد عاب نفسك، ومن مدحها فقد مدح نفسك ، وهكذا.
وهكذا الشأن مع المعنويات، فمن ضروب توسيع النفس وسعادتها اتصالها بنفس مثلها، فتشعر حينها بالسعة بعد الضيق وتشعر بلذة التجاوب بين نفسين، وهذا سر الصداقة الصافية والأخوة الحانية.
لذلك كان عمل الأنبياء ومن بعدهم المصلحون : توحيد الغرض بين النفوس، فتكون دعوتهم لتوحيد الله فتتوحد النفوس حول هدف أسمى، فيصير الأتباع في وحدة شعورية فتتسع نفوسهم وتتوحد مقاصدهم؛ فيصدر عن هذه النفوس وهي مجتمعة العجب العجاب من التضحية ،والإيثار، وحب الآخر .
إن مما ينشده المصلحون والمجددون تحقيق نظم اجتماعية وسياسية لها أغراض سامية وأهداف نبيلة ليتوحد حولها الناس وتصفو نفوسهم وتتآلف قواهم عليها.
وإنما يقعد بالبشرية عن النهضة والاتحاد عصبيات مقيتة ونزاعات قومية تثير ضيق النفس وانقباضها.
ومن مزايا الدين توسيع النفوس ، وهو ما عبر عنه الإسلام بانشراح الصدر، ولعلك صادفت في حياتك أناسا ضاقت صدورهم، وتغلب عليهم الشعور بأن حظوظهم تعيسة، وأن التوفيق لا يحالفهم، وأنهم كلما سلكوا طريقا سد في وجوههم.
إن الدين كفيل بإزالة هذا الشعور، وشرح الصدر وتوسيع النفس، المؤمن يشعر شعورا عميقا بأن يد الله معه ،وأنه مؤيد وسيتجاوز كل الصعاب والعقبات، وهو يشعر بانهدام السدود والحدود في طريقه، وهو يشعر بانعدام الزمان والمكان بضمه عالم الغيب إلى عالم الشهادة، واتصال الحياة الأخرى بالحياة الأولى، فهو واسع الرجاء، لا يعوق نظره عائق، ينجذب إلى عالم علوي فيه السعادة؛ وفيه الرضا؛ وفيه الطمأنينة.
الدين الحق يغير النفسية فينقلها من عالم ضيق إلى عالم فسيح غير محدود، كالذي حدث في من كانوا يعبدون الأصنام في الجاهلية عندما انتقلوا للإسلام، فشتان ما بين أبي بكر وعمر وعثمان.. في الجاهلية وبينهم أنفسهم وهم مسلمون ، ما أضيق نفوسهم في حياتهم الأولى وما أوسعها في الثانية (وهم مسلمون) وكما أفادهم الدين سعة نفس أفادهم قوة نفس ؛ فمحال أن كان الجاهليون يفتحون ما فتحوا وينتصرون ما انتصروا، إذا بقوا على دينهم الأول.
الدين هو الذي فتح أمامهم الأفق، وملأهم روحا للعمل، بل هو الذي غير موقفهم نحو الحياة، علمهم الشجاعة، والسماحة ، والكرم ، وأورثهم الايمان بعد الشك ، والطمأنينة بعد الجزع ، لقد كانت النفوس قبل الإسلام مكبلة ببعض أوهام من غضب الصنم إلى رضاه، ومن عادات وتقاليد تشل العقل ،وتقيد الروح؛ فلما آمنت بإله واحد فوق كل شيء يرضيه الخير ويغضبه الكفر والشر والفساد، سمت النفوس سموا كبيرا.
* إسلام ويب.
طباعة
ارسال