لا يمكن للداعية أن يبلغ دعوة الله للخلق إلا بأن يخالطهم ويعيش معهم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، والسياسية، ويعيش معهم آمالهم وآلامهم ومشاكلهم وهمومهم، وهو ما يمكن أن يطلق عليه اسم الواقع.
الداعية لا غنى له عن إدراك واقعه وفهم علاقاته واستيعاب أحداثه، إذ هو مطالب شرعا بتحصيل البصيرة في دعوته، ولا تتأتى هذه البصيرة إلا بمعرفة واقع المجتمعات وأفرادها وما يحيط بها، وكذا بمعرفة وسائل العصر التي تخدم دعوته وتعينه على قبول الناس لها.
والوعي والبصيرة بالواقع لها فوائدها ومنافعها التي تعود على الدعوة والداعية، بل يمكن القول بأن دعوة لا تتعامل مع الواقع هي دعوة ميتة، وأن داعية لا يعيش واقع من يدعوهم إنما هو بمعزل عن الناس وأبعد ما يكون عن التأثير فيهم. كما وأن العامل في الحقل الدعوي إن لم يكن متفاعلا مع الواقع وعالما به، ومدركا له إدراكا كاملا ـ فإن حركته قد تكون وبالا على دعوته وبلاء على المنتسبين إليها، أو تنفيرا للمستهدفين منها؛ ومن ثم كان الوعي بالواقع من أهم مقومات الداعية الناجح والدعوة المؤثرة.
ومن منافع العلم بالواقع:
أولا: تحقيق البصيرة في الدعوة
وهو مطلب ديني أساسي في الدعوة إلى الله، وصفة لازمة للعاملين في حقلها، وقد أمر الله رسوله بها، وأن يأمر أتباعه بتحصيلها: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني}.
وإنما تأتي البصيرة كثمرة من ثمرات العلم بالواقع؛ وإدراك ما يحيط بالداعية وفهم علاقاته وفهم الأشياء على حقيقتها، ومعرفة الروابط بين الأمور والأحداث، ومعرفة القوى المهيمنة والجهات المؤثرة في المجتمع، والمكائد الموجهة ضد الأمة والدعوة، كما أنه يعني الاطلاع على وسائل العصر وأساليبه المتجددة لخدمة الدعوة.
ثانيا: وضوح الرؤية
وامتلاك هذا الوعي يجعل للدعوة رؤية واضحة عن مجتمعها ومشكلاته، وكيفية التعامل معها، وأساليب علاجها دون فوضى وتخبط، ويمكن من وضع الخطط الملائمة للتعامل مع الوضع القائم.
ومن الخطأ الاستعاضة عن العلم والوعي بالواقع بأمر آخر، ولو كان هذا الأمر هو بذل النفس والنفيس؛ لأن البذل لا ينتج ثمرته، ولا يعطي نتيجته إلا إذا استوفى شروط إنتاجه، وامتنعت موانعه.
فمن لا يعرف الواقع في الخلق، والواجب في الحق، لم يعرف أحكام الله في عباده، وإذا لم يعرف ذلك كان قوله وعمله بجهل، ومن عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح.
ثالثا: تسديد الفتوى
وغالبا ما يكون الاضطراب في الفتاوى والتضارب فيها بسبب الجهل بالواقع، أو عدم الإحاطة به.. وقد أشار أهل العلم سلفا وخلفا إلى أهمية فهم واقع المسألة مع فهم النصوص الشرعية المتعلقة بها وفقه تنزيل النصوص على الواقع.
يقول ابن القيم رحمه الله: (ولا يتمكن المفتي، ولا الحاكم، من الفتوى، والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهْم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن، والأمارات، والعلامات، حتى يحيط به علماً.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به، في كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر)(إعلام الموقعين:1 /87).
رابعا: معالجة مشاكل المجتمع الحقيقية
فالوعي بالوقع يجعل الداعية عالما بمشكلات المجتمع الذي يعيش فيه، فيعمل على علاجها، والجهل بالواقع يجعل دعوته تدور في إطار نظري وتعالج مشكلات بعيدة عن واقع المدعوين، فربما عالج مشكلة لا تمس الحاجة إليها، وغفل عن أخرى هي أساس انحراف المجتمع، ومن المعلوم أن منهج الأنبياء هو دعوتهم بعد التوحيد إلى تصحيح انحرافات مجتمعاهم الأخلاقية كما فعل لوط عليه السلام، أو الاقتصادية كما فعل شعيب مع أهل مدين، أو السياسية كما فعل موسى عليه السلام.
خامسا: تحصيل التكامل والتوازن
إن الوعي بالواقع سياسيا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا لبنة أساسية في بناء الشخصية المسلمة ـ في هذاالزمان وفي كل زمان ـ ولا يسوغ بحال أن يربى المسلم علميا وفكريا ويهمل في الجوانب العملية والواقعية.. وهذا خلل تربوي تنشأ عنه آفات علمية وعملية معا، فمن انشعال فكر المسلم بقضايا ليست مطروحة، أو استعدعاء قضايا ومشكلات تاريخية انقضت ظروفها واضمحلت أصولها، إلى حجز العقل المسلم وسد منابع الثقافة عليه، على تعويق السعي للتمكين، إلى بقاء الأمة في علة عن شؤونها السياسية والاجتماعية وسقوطها في هوة التبعية الاقتصادية والتققنية، وصدق الله: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم}(الشورى: 30).
لا للإغراق في الواقع
وإذا كنا نبين أهمية إدراك الواقع والوعي به، فإننا في ذات الوقت نحذر من المبالغة والإيغال في الانشغال به وتضخيم أهميته.. إذ إن لهذه المغالاة سلبيات ومحاذير من أهمها:
1ـ الغفلة عن التأصيل الشرعي:
وذلك باعتبار أن العلم بالواقع هو الأصل، مما يعود بإغفال المنهج الصحيح في تلقي العلوم الأصلية، والتفقه بالأحكام الشرعية، وإفال طلب العلم الواجب، وإهمال التربية الإيمانية، والجوانب السلوكية، وضعف التقرب إلى الله بالعبادات القلبية والعملية، وهذا من أخطر السلبيات إن لم يكن أخطرها على الإطلاق.
2ـ الافتتان بالبهرج والزيف:
سواء كان بشخصيات كافرة، أو بأفكار مستوردة منحرفة، أو بطوائف ضالة، أو بأساليب ووسائل غير شرعية، وما يصحب ذلك من اختلال في ميزان الحب والبغض في الله تعالى، وما قد يرافق ذلك الإيغال أيضا من التعويل على الأسباب والوسائل المادية، وإغفال الجوانب الإيمانية والمعنوية.
3ـ الجنوح بالدعوة إلى غير طريقها
وذلك بأن تخرج عن مسارها الصحيح، وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده، وتوحيده سبحانه، فتأخذ طابع الكفاح السياسي، أو الثورة الوطنية، أو المعارك الحزبية، مع غلبة هذا الخطاب، والاقتصار عليه، وذبول الجانب الاعتقادي التربوي العلمي الرصين، واضمحلال جانب التقرب إلى الله بالدعوة كعبادة وسيلة ومقصدا؛ مما يتيح الفرصة للهجوم على الإسلام أو تشويه الدعوة والدعاة.
لا إفراط ولا تفريط
وفي النهاية نقول: إن العلم بالواقع ضرورة دعوية ملحة، وإن الجهل به يؤدي إلى ضرر كبير على الدعوة وأهلها.. كما أن الإغراق في هذا الواقع له مفاسده، وعواقبه الغير محمودة.. فعلى الدعاة والمسلمين التوسط وعدم الإفراط ولا التفريط.. وما أحسن قول القائل:
عليك بأوســاط الأمـور فإنها **** طريق إلى نهج الصواب قويم
ولا تك فيها مفرطاً أو مفرطاً **** كلا طرفي قصد الأمور ذميم
* إسلام ويب.
طباعة
ارسال