يومٍ القيامة يوم طويلٍ قدرُه، عظيمٍ هَوْلُه، شديدٍ كَرْبُه، يجمع الله فيه الأوَّلينَ والآخِرين؛ {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}[النجم:31].
وقد حذَّر الله عباده من هذا اليوم وأهواله، وأمرهم بالاستعداد له؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}(الحج:1ـ2]. وقال تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا}[المزمل:17].
وعن المِقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: [تُدْنَى الشمس من الخَلْق، حتى تكون منهم بمقدار مِيل؛ فيكون الناس على قدر أعمالهم في العَرَق؛ فمنهم مَنْ يكون إلى كَعْبَيْه، ومنهم مَنْ يكون إلى رُكْبَتَيْه، ومنهم مَنْ يكون إلى حِقْوَيْه، ومنهم مَنْ يُلْجِمُهُ العَرَق إلجامًا](مسلم).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [يَعْرَق الناسُ يوم القيامة، حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا، ويُلْجِمُهم حتى يبلغ آذانهم](البخاري ومسلم).
في ذلك اليوم العصيب يبحث الناس عن ملجأ يحميهم أو ظل يقيهم من حر هذه الشمس الحارقة، فلا يوجد يومئذ إلا ظل الله الذي يظل به من يشاء من عباده، وقد ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم سبعة أصناف يظلهم الله في هذا اليوم المهيب.
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: [سبعةٌ يظلُّهم الله - تعالى - في ظلِّه، يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه: إمامٌ عَدْلٌ، وشابٌّ نَشَأَ في عبادة الله، ورجلٌ معلَّقٌ قلبُه في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله؛ اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه، ورجلٌ دَعَتْهُ امرأةٌ ذات منصبٍ وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجلٌ تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلمَ شِماله ما تُنفِقَ يمينُه، ورجلٌ ذَكَرَ الله خاليًا ففاضَتْ عيناه]. فكان من هؤلاء السبعة شاب نشأ في عبادة الله.
لماذا الشباب
وإنما الحكمة في تخصيص هذا السن وكون الشباب الصالح أهلا لهذا التكريم والثواب العظيم، أن عبادة الله على الشيخ الكبير الذي تنتابه الأمراض سهلة ميسرة في الغالب، لكنها على الشاب الصحيح صعبة ثقيلة، لطول أمله واستبعاده الموت، ولكثرة المغريات، وخاصة في هذا العصر، وللصحة الجسمية في بدنه، ولغلبة داعي الشهوة عليه، وقلة الحنكة والتجربة والتعقل الذي يكبح جماح الهوى، مع اعتقاده بطول العمر وفرصة التوبة. يقول ابن رجب رحمه الله في شرحه على صحيح البخاري: "إن الشباب داع للنفس إلى استيفاء الغرض من شهوات الدنيا ولذاتها المحظورة فمن سلم منه فقد سلم".
وقال المناوي في فيض القدير: "خصه (يعني الشباب) لكونه مظنة غلبة الشهوة وقوة الباعث على متابعة الهوى، وملازمة العبادة مع ذلك أشق وأدل على غلبة التقوى". اهـ.
مفهوم العبادة
وعندما نقول "نشأ في عبادة الله" ليس مقصودنا أنه جلس في زاوية في مسجد يتعبد، أو قعد في بيته يصلي ويقرأ القرآن، أو أمسك مسبحة وقعد يعد عليها قدر ما يذكر الله تعالى.. ولا نقصد أيضا أنه تخلى عن الحياة الدنيا وفارقها وهجر أهلها ومعتركها لأجل الفوز بالآخرة.
وإنما نعني العبادة بمعناها الصحيح، وهي: كل ما يحبه الله من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، العبادة التي يستعمل فيها جسمه وروحه ووقته وماله وما أنعم الله به عليه في مرضاة ربه وخالقه، وبذلك استحق أن يظله الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
عندما نقول "شاب نشأ في عبادة الله" فإننا نقصد ذلك الطالب في مدرسته وفي جامعته يطلب العلم لينفع نفسه ودينه وأمته، فالعلم من أعظم أنواع العبادة، نقصد ذلك البار بوالديه يسعى في إرضائهما لينال بذلك رضا ربه ومولاه، نقصد ذلك الأب الشاب الذي يسعى لتربية أبنائه وصغار إخوانه، ونفع أمته، نقصد ذلك الذي خرج يسعى لطلب رزق يكفي به نفسه، أو ينفق على عياله أو والدين كبيرين، أو زوجة وأطفال صغار.
إنه شاب وفَّقَهُ الله منذ نَشأ للأعمال الصالحة، وحبَّبها إليه، وكَرَّه إليه الأعمال السيئة، وأعانه على تركها: إما بسبب تربية صالحة، أو رِفْقة طيبة، أو غير ذلك؛ وقد حفظه الله ممَّا نشأ عليه كثيرٌ من الشباب من اللهو واللَّعب، وإضاعة الأوقات والصلوات والواجبات، والانهماك في الشهوات والملذَّات، وقد أثنى الله على فتية الكهف بقوله: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}(الكهف:13).
إن الشاب الذي نشأ في عبادة الله هو ذلك الجندي في الميدان، والتاجر في السوق، والفلاح في المزرعة، والطبيب في المستشفى، والمهندس والعامل في المصنع، والعضو الصحيح في المجتمع، وهو الذي إذا دعي إلى الخير أجاب ولبّى، وإذا سمع الشر أو رآه سعى لنصح مرتكبيه باللسان والكتابة باليد، وإن كان ممن يقع عليه الإنكار باليد ويستطيع ذلك فإنه يقوم به خير قيام، فإن فقد القدرة والنصير من البشر كان منكراً له بقلبه إن لم يستطع بلسانه .
لقد علم أنه مسؤولٌ عن شبابه فيما أبلاه، فعمل بوصية نبيِّه محمد - صلى الله عليه وسلم - التي أوصى بها؛ "فاغْتَنِم شبابَه قبل هَرَمِه، وفراغَه قبل شغله، وحياتَه قبل موته، وصحتَه قبل سقمه، وغِنَاه قبل فَقْره".
فهنيئا لهذا الشاب الذي ملك شهوته، وغلب صبوته، وأحسن نشأته، إكرام الله له وحفظه إياه وتوفيقه له.
هنيئا لمن تعلّق قلبه بعبادة ربه منذ نشأ، واعتاد المساجد لتأدية الصلوات المكتوبة، وللجلوس في مجالس الخير، وعمل الصالحات، وقراءة القرآن وذكر الله، والسعي في طلب رضا الله.
هنيئا لمن هداه الله إلى الطريق الصحيح السليم منذ بداياته وألزمه طاعته؛ فإن من تعوّد الطاعة في صغره كان أقدر عليها في كبره، ومن أتبع نفسه هواها وقاده الشيطان بزمام الشباب إلى الذنوب والمهالك، ندم حين يشيخ ولات ساعة مندم، ومن تاب تاب الله عليه ولكن شتان بين الفريقين.
فجدير بشاب هذا شأنه أن يكون آمناً إذا فزع الناس أجمعون، وأن يظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، ويا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك.
* إسلام ويب.
طباعة
ارسال