من النظائر القرآنية ما جاء في الآيتين التاليتين:
الأولى: قوله تعالى: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير} (الأنعام:17).
الثانية: قوله عز وجل: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم} (يونس:107).
ورد جواب الشرط الثاني في الآية الأولى بقوله سبحانه: {فهو على كل شيء قدير} في حين ورد في الثانية بقوله تعالى: {فلا راد لفضله}. وقال تعالى في آية الأنعام: {وإن يمسسك} بينما قال سبحانه في آية يونس: {وإن يردك}. وخُتمت آية الأنعام بإثبات صفة القدرة له سبحانه، بينما خُتمت آية يونس ببيان صفتي المغفرة والرحمة له عز وجل، ومن ثم اجتمعت ثلاثة أسئلة تتعلق بتوجيه الفوارق الثلاثة بين هاتين الآيتين الكريمتين.
وقد أجاب ابن الزبير الغرناطي عن هذه الأسئلة الثلاثة بما حاصله:
الجواب عن السؤال الأول: أن مدار آية الأنعام على أنه سبحانه المنفرد بالخلق والاختراع، والمتصرف في عباده بما يشاء، والقدير على كل شيء، ونفى هذه الصفات عمن سواه سبحانه، ومناسبة هذا لما افتتحت به سورة الأنعام من قوله تعالى: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور} (الأنعام:1) وقوله سبحانه: {هو الذى خلقكم من طين} (الأنعام:2) وقوله عز وجل: {وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون} (الأنعام:3) وقوله فيمن أهلكه من القرون بكفرهم: {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين} (الأنعام:6) وقوله سبحانه: {قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله} (الأنعام:12) وقوله تعالى: {قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض} (الأنعام:14).
فدارت هذه الآيات كلها على التعريف بوحدانيته تعالى، وانفراده بخلق الأشياء وملكها وقهرها، ولم يقع فيها تعرض إلى أن أحداً من خلقه يمنع، أو يدفع، أو يتفرد بأمر شيء من الخلق، وإن كان قد يفهم بعض ذلك في أثناء الكلام من مثل قوله عز وجل: {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} (الأنعام:1) وقوله سبحانه: {قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض} (الأنعام:14).
بل إن فحوى هذه الآيات يفيد أن المشار إليهم بمخالفة مقتضاها، أخلدوا إلى ما هم فيه من التنكر لخالق السموات والأرض ومدبر أمرهما وما فيهما، وأشبهوا البهائم في البعد عن النظر في خلق الله، وكأنهم يرون أن الأفعال وما في العالم من المدركات المشاهدات من الأجسام والأعراض على كثرة تنوعها وتعددها، واختلاف جوهرها وأشكالها، وُجدت بأنفسها لا عن فاعل تقدمها، أوجدها بالقدرة والاختيار، بل تكونت بأنفسها، فقوبل فعله وموقفهم بالتعريف بقدرته تعالى على كل شيء، وأنه الموجد لما في العالم العلوي والسفلي، فجاء الخطاب السماوي للنبي صلى الله عليه وسلم وللناس أجمعين: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو}؛ إعلاماً بأن ما يقع في هذا الكون فمنه تعالى؛ لأنه المنفرد بالخلق، والقدير على كل شيء. فهذا حاصل ما تقتضيه آية الأنعام.
وأما آية يونس، فقد ذُكر قبلها حال من ظن أن غيره تعالى يضر، أو ينفع، قال تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} (يونس:18) فقد نسبوا لمن يعبدون من دون الله النفع بالشفاعة. وقال سبحانه: {ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم} (يونس:28). وقال عز وجل: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر} (يونس:31). وقال عز من قائل: {قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده} (يونس:34). وقال تعالى: {قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق} (الأنعام:35) فدارت هذه الآيات على أنهم توهموا نفع ما اتخذوه معبوداً من دون الله، فبطل توهمهم، واضمحل باطلهم، وأتبع ما تقدم بقوله جل علاه لنبيه عليه الصلاة والسلام وللناس من بعده: {ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك} (يونس:106) ثم بقوله سبحانه: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله} (يونس:107) وحصل من مجموع ما تقدم، أن كل ما عُبِد من دونه سبحانه، وتُوهِّم أنه يضر أو ينفع، ليس كما ظنوه، كما قال تعالى: {وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه} (الحج:73) فناسب ما تقدم من التنصيص على انفراده سبحانه بالخلق والأمر.
الجواب عن السؤال الثاني: أن قوله تعالى في سورة يونس: {وإن يردك بخير} ولم يقل: {وإن يمسسك بخير} كما في آية الأنعام، أنه تقدم قبل هذه الآية قوله تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون} (يونس:96) فهو إعلام منه سبحانه بجري أمر الخلائق على ما قُدِّر لهم أزلاً، وسبق به حكمه تعالى، ثم أعقب بقوله عز وجل: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا} (يونس:99) فهذا تأكيد للغرض المذكور من جري أمر العباد على ما قَدَّر لهم سبحانه وما شاءه فيهم، وأن ذلك لا يرده رادٌّ، ولا يعارضه معارض، فناسب هذا قوله تعالى: {وإن يردك بخير فلا راد لفضله} أتم مناسبة، ثم وقع بعد هذا قوله عز من قائل: {يصيب به من يشاء من عباده} وإصابته سبحانه من يشاء بالخير هو المراد بقوله في آية الأنعام: {وإن يمسسك بخير} فاجتمع في آية يونس الأمران معاً، وكأنه قد قيل: (وإن يمسسك بخير، ويُرِدْك به، فلا رادَّ لما أصابك به، وأراده لك) فكان في آية يونس من إمعان المقصود وتأكيده ما ليس في آية الأنعام؛ ليطابق هذا التأكيد والإمعان ما تقدم من قوله سبحانه: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون} وقوله تعالى: {ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا}. ولم يتقدم في آية الأنعام مثل هذا، بل اكتفى هناك بقوله عز وجل: {وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير} فجاء كل هذا على أتم مناسبة، وأوضح ملاءمة.
الجواب عن السؤال الثالث: أنه لما تقدم آية يونس من مؤثرات الخوف والجهل، ومهيجات الرهبة والخشية ما اقتضى الإخبار بغيبة للقَدَر، وجهل للمشيئة في قوله سبحانه: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون}. وقوله عز وجل: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا} وعَظُم موقع ذلك على المؤمنين، وكان مع ذلك للوفاء بصالح الأعمال مما لا يحصل بالآمال، آنسهم سبحانه بذكر الصفتين العليتين، فقال سبحانه: {وهو الغفور الرحيم} فناسب ورود الوصفين ما تقدم.
* إسلام ويب
طباعة
ارسال