بين الحين والآخر، يحتاج المسلم في غمرة انشغالاته الدنيوية الضاغطة، إلى من يذكره بواجبه تجاه القرآن الكريم، ويبعث الشوق في نفسه للإقبال على تلاوته وتدبره وتدارسه بهمة عالية، فهو الكتاب الذي وصفه منزله بقوله {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}، فالقرآن كلام الله الهادي الذي "يستمد مجده، وعلو شأنه ورفعته، من عظمة وجلال من تكلم به، وهو الله سبحانه وتعالى".
وهذا هو تماما المقصد الذي سعى إليه الباحث المصري عمرو صبحي الشرقاوي، المتخصص في علوم القرآن والتفسير، في كتابه "المشوق إلى القرآن.." الصادر عن مركز تفكر للبحوث والدراسات في طبعته الأولى سنة 2015، فهو كما وصفه في مقدمة الكتاب: "رسالة إلى كل محب للكتاب ليزداد حبا، وإلى كل مبتعد ليزداد قربا، وما غرضه إلا بعث الشوق في نفس القارئ ليقبل على كتاب الله تعالى، وقد ذكرت فيه من كلام أهل العلم، وحال السلف الكرام ما يبعث الهمة، ويقرب المسافة بيننا وبين الكتاب المحفوظ".
التصالح مع القرآن:
حينما يتغافل المسلم عن كتاب الله المجيد، وتفتر صلته به، وينقطع عن تلاوة القرآن والمحافظة على ورده اليومي منه، وتضعف عناية المسلم بالقرآن تلاوة وتدبرا ومدارسة وعملا، فإنه بحاجة ماسة إلى مراجعة حساباته، ولا بد له من التصالح مع القرآن، "فإننا حينما نعلن هذا التصالح، ونسير في الطريق إليه، فنحن حقا نسير في طريق إعادة التوازن والسكينة إلى الروح التي تسكن الأجساد، وهذا هو أول طريق الإصلاح".
ووفقا للمؤلف، فإن "أول طريق التصالح مع القرآن أن تتحايل على نفسك بالإكثار من تلاوته، تلاوة لا كالتلاوات السابقة، تلاوة لا تنتظر فيها موعدا، تلاوة لا تنشغل فيها بغير القرآن، إن القرآن كتاب عزيز لا بد أن تعطيه أنفس ما تملك من أوقات، فأقبل عليه، وإياك أن تبخل، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه، ولا بد أن تتخير أوقات التلاوة، وأجلها وقت اجتماع القلب".
أما ثاني طرق التصالح مع القرآن، يتابع المؤلف بيانه، فهي "فهم القرآن، فإن الإنسان بالقرآن إن فهم معانيه، ولذا حث الله تعالى على تفهم القرآن، وإدراك حقائقه، ولا شك أن القلوب الحية تجري في مضمار المعاني القرآنية، والقلوب المكبلة بالخطايا ما زالت تزحف في الخطوط الأولى"، لكن المؤلف يحفز المسلم على تلاوة القرآن والاستماع إليه، حتى وإن كان مذنبا عاصيا، فإنه بذلك يأخذ بسبل الاهتداء بتطهير القلب وتنقيته من الران الذي كسبته نفسه، حتى يكون مؤهلا لاستقبال هدايات القرآن، والاستنارة بأنواره.
كما اعتنى المؤلف ببيان أهمية عقد مجالس مدارسة القرآن، كطريقة من طرق التصالح مع القرآن، إذ إن الجالسين في تلك المجالس ينهلون من فيض النور الذي يتلى في المكان"، ويحوزون تلك الفضائل التي وردت في الحديث النبوي ".. وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده.."، وفي تلك المجالس تظهر حقائق القرآن، ومن لم يكابد حقائق القرآن لهيبا يحرق باطن الإثم من نفسه، فلا حظ له من نوره".
كيف نتلقى القرآن؟
ركز المؤلف كثيرا على كيفية تلقي المسلم للقرآن حتى ينتفع به، ويتذوق آياته ويتدبرها، وليكون هو مصدر هدايته الدائم، والمكون لمفاهيمه وأفكاره ورؤاه، والباني لشخصيته، مشيرا إلى أن "أهم فصل في تعريف القرآن المجيد هو أنه "كلام الله رب العالمين"، وما كان لكلام الحي الذي لا يموت أن يبلى أو يموت، ولكن الذي يموت هو شعورنا نحن، والذي يبلى هو إيماننا نحن".
وطبقا للكتاب، فإن "أول صفة يجب أن يتلقى بها المسلم القرآن الكريم هي صفة "الوحي"، فهي أهم جوهر يجب أن ننظر من خلاله إلى كلماته، بما هي كلمات الله رب العالمين، ذلك أن كلام الله لا يتنزل على الرسل إلا وحيا، وهذا شيء مهم جدا، فكون القرآن "وحيا" هو المعراج الرئيس الذي به يرتقي القارئ إلى سماء القرآنية، وهو المصطلح المفتاح الذي به يكتشف طبيعة القرآن، ويبصر نوره، ويتلقى حقائقه الإيمانية، ورسالاته الربانية، ويشاهد شلالات الجمال والجلال، حية متدفقة من منابع القرآن".
ولفت المؤلف إلى أهمية الاستحضار الدائم لكون القرآن "وحيا"، فهو ليس معنى تاريخيا فحسب، بل هو معنى مصاحب لطبيعته أبدا، بمعنى أن صلة القرآن بالسماء هي صلة أبدية.. وأن المشكلة هي أننا عندما نقرأ القرآن نربط الوحي فيه بذلك الماضي الذي كان، بينما الوحي نور حاضر، وروح حي، يتدفق الآن في كل آيات القرآن، وينبع من تحت كلماته، شلالات من كوثر ثَجَّاج".
ويزيد المؤلف الأمر وضوحا بقوله "لقد قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فانقطع الوحي التاريخي، أي انقطع فعل التنزيل الذي كان في الزمان والمكان، بواسطة الملاك جبريل عليه السلام، ولكن بقي الوحي القرآن، والوحي هنا صفة اسمية من أسماء القرآن المجيد، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ}.
ولأن المؤلف يستشعر اعتراض من قد يقول "هذه حقائق بدهية، فلم كل هذا العناء؟ رد قائلا: "نعم، ولكننا ننساها فنضل الطريق إلى القرآن، وإنما مشكلة الأجيال المعاصرة أنها أضاعت بدهياتها، حتى صرنا بحاجة إلى إعادة تقرير معنى "الدين" نفسه"، مؤكدا أن "تلقي القرآن بوصفه (وحيا) وهو المفتاح الأساس لاكتشاف كنوزه الروحية، والتخلق بحقائقه الإيمانية العظمى".
القرآن مشروع العمر:
اهتم المؤلف كثيرا ببيان أحوال السلف مع القرآن، وكيف كانت عنايتهم بتلاوته الدائمة، والقيام به آناء الليل والنهار، وكيف كانوا يحرصون على المجالس الخاصة بتلاوته والاستماع إليه وتدبره ومدارسته، ونقل عن الصحابي عبد الله بن مسعود قوله: "من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن"، وفي رواية "ثَوَّروا القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين"، ونقل عن ابن عباس قوله: "لو أردت أن أملي وقر بعير على الفاتحة لفعلت".
ولبيان معنى مصطلح "تثوير القرآن" نقل عبارات شارحة له، كقول ابن عطية: "وتثوير القرآن: مناقشته ومدارسته والبحث فيه، وهو ما يعرف به"، وما قاله القرطبي عن بعض العلماء إن تثوير القرآن "قراءته ومفاتشة العلماء به"، وبعد إيراده لجملة من أقوال العلماء الشارحة لذلك المصطلح، لفت المؤلف إلى أن مريد التثوير يلزمه بعد معرفة المعنى الإجمالي، وإن أراد الارتقاء أن يتعرف على أقوال السلف في الآية، لا بد له من إثارة الأسئلة على نفسه، وهي من أهم مراحل التثوير، وهو ما يمكنه من الحصول على فهم أعمق للكتاب المجيد.
وبما أن القرآن هو كتاب الهداية الأول، فإنه ينبغي أن يكون مصدر المسلم الأول والدائم في طلب الهداية، والوصول إلى الحقائق والمعاني الإيمانية الخالصة، وملازمة طريق الاستقامة، ولبيان عظمة ملازمة القرآن والاهتداء به، ذكر ما قاله ابن تيمية عن نفسه وتجربته مع القرآن بعد سجنه وانفراده مع القرآن: "قد فتح الله علي في هذا الحصن في هذه المرة من معاني القرآن، ومن أصول العلم بأشياء، كان كثير من العلماء يتمنونها، وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن".
إن مجاهدة النفس والشيطان والهوى أعمال لا تنقطع أبدا حتى يفارق الإنسان الحياة الدنيا؛ لذا فإن خير ما يعين على ذلك هو العيش الدائم مع القرآن، تلاوة وحفظا وتدبرا ومدارسة وعملا، "فالقرآن هو مشروع العمر، وبرنامج العبد في السير إلى الله إلى أن يلقى الله، وليس المقصود أن تدرك الهدف كله، لكن يكفيك أن تموت وأنت على الطريق".
* إسلام ويب.
طباعة
ارسال