محبة الله تعالى لعبده غيبٌ من الغيوب، وهي مزيَّة عظيمة من المزايا الربانيَّة التي يَمنحها الله بعضَ عباده، فليس كلُّ مَن يدَّعي محبَّةَ الله له صادقًا في دعواه؛ فقد أقام الله تعالى لهذه المحبَّة علاماتٍ تدلُّ عليها، فإذا ما اختص الله عبدًا من عباده بمحبته، وقرَّبه إليه، ظهَرت عليه وفيه بوارقُ تلك العلامات التي تؤكِّد حصول المحبة، وصِدق مَن يدَّعيها.
وقد ذكر الإمام أبو طالب المكي[1] جملةً من هذه العلامات، فقال: "يكون محبًّا للخير وأهله، مجانبًا للشر وأهله، مسارعًا إلى ما ندب إليه أو أمر به إذا قدر عليه، حزينًا على ما فات من ذلك إذا أعجزه، تاركًا لما لا يعنيه من الأقوال والأفعال، بريئًا من التكلُّف؛ وهو اجتناب ما لم يؤمر به ولم يندب إليه مِن تركٍ وفعلٍ، مُصليًا للخمس في جماعة إذا أمِن الفتنة وسلِم له دينُه، ومجتنبًا للغيبة ولذكر الناس، يحبُّ للكافة ما يحب لنفسه، ويَكره لهم ما يكره لنفسه، ومسارعًا إلى الخيرات، مسابقًا إلى أعمال البر والقُربات، طويل الصمت، ليِّنَ الجانب، ذليلًا للمؤمنين، عزيزًا على المتكبرين، لا يماري في الباطل، ولا يداهن في الدين، ولا يُبغض على شيء من الحق وإن كان عليه، أو مِن أبعد الناس منه، ولا يحبُّ على شيء من الباطل وإن كان له، أو من أقربِ الناس إليه، كارهًا للمدح ممن يحبه، قابلًا للنصح ممن يُبغضه، يكون المدح والذم يَجريان من قلبه مجرى واحدًا، صدوقًا فيما يضرُّه، غير متصنع بما يستعجل نفعه، سريرته أفضل من علانيته، محتملًا لأذى الخلق، صابرًا على بلائهم، منفردًا بحاله عنهم، تاركًا الكثيرَ من مجالسهم واجتماعهم؛ خشية دخول الشبهات عليه، وخوفًا مِن تغيُّر قلبه له..."[2].
وأما الإمام الغزالي[3] رحمه الله، فيقول: "وأما الفعل الدال على كونه محبوبًا، فهو أن يتولى الله تعالى أمره؛ ظاهرَه وباطنه، سرَّه وجهره، فيكون هو المشير عليه، والمدبر لأمره، والمزيِّن لأخلاقه، والمستعمل لجوارحه، والمسدِّد لظاهره وباطنه، والجاعل همومَه همًّا واحدًا، والمُبغِّض للدنيا في قلبه، والموحش له من غيره، والمؤنس له بلذة المناجاة في خَلواته، والكاشف له عن الحُجب بينه وبين معرفته، فهذا وأمثاله هو علامة حب الله للعبد"[4].
وفي مختصر منهاج القاصدين؛ لابن قدامة المقدسي (ت689هـ)، يقول: "ومن أقوى العلامات: حسن التدبير له، يربيه من الطفولة على أحسن نظام، ويكتب الإيمان في قلبه، وينوِّر له عقله، فيتبع كل ما يُقربه، ويَنفر عن كل ما يبعد عنه، ثم يتولاه بتيسير أموره، من غير ذلٍّ للخلق، ويسدِّد ظاهرَه وباطنه، ويجعل همَّه واحدًا، فإذا زادتِ المحبةُ، شَغَلَهُ به عن كل شيء"[5].
وما سبق ذكره من علامات هي في الواقع لكمال محبَّة الله تعالى للعبد، وهي فهوم واستنباطات من نصوص في كتاب الله تعالى وسنة نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم، وسأذكر هنا بعض هذه العلامات بشكل مختصر، وأُورد النصوص التي تدلُّ عليها، من ذلك:
أولًا: التواضع وخفض الجانب للمؤمنين، والشِّدة والغلظة على الكافرين:
فقد وصف الله تعالى مَن يُحبهم ويحبونه بذلك، فقال عز من قائل: ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 54]، فهم يرأَفون بالمؤمنين ويرحمونهم، ويَلينون لهم، ويَغلُظون على الكافرين، ويَشتدون عليهم؛ لعلمهم أن الله خاذِلُهم ومُهلكهم، وإن اشتد أمرُهم، وظهَر عُلوُّهم وقهرُهم[6]، كما وصفهم الله تعالى في موضع آخر فقال: ﴿ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29].
قال البقاعي[7] في نظمه: "ولَمَّا كان ذلُّهم هذا إنما هو الرفق ولين الجانب لا الهَوان، كان في الحقيقة عِزًّا، فأشار إليه بحرف الاستعلاء مُضمِّنًا له معنى الشفقة، فقال مبينًا أن تواضعهم عن علوِّ منصب وشرف: ﴿ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 54]؛ أي: لعلمهم أن الله يُحبهم"[8].
ثانيًا: الجهاد في سبيل الله تعالى بالنفس والمال، وعدم المبالاة بلوم اللائمين لهم:
وبعد أن وصف الله تعالى أحبابه وأولياءه بالتواضع ولين الجانب للمؤمنين، والشدة والغلظة على الكافرين، أتبَعه بوصفٍ آخَرَ وعلامة أخرى تؤكِّد حبَّهم لله، وحبَّ الله لهم، وهو جهادهم في سبيل الله تعالى بأنفسهم وأموالهم[9]، وتنكيلهم بأعداء الله، وفعل جميع ما تصل قدرتهم وتبلغ قوتهم إليه؛ من إنكال الأعداء وإهانتهم، ومناصرة الأولياء ومعاضدتهم[10]، مع عدم خوفهم من لوم اللائمين لهم من المنافقين والمنهزمين والمستكينين للأعداء، فقال عز من قائل: ﴿ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ﴾ [المائدة: 54].
ثالثًا: وضع القبول له في الأرض:
إنَّ حبَّ المؤمنين لإنسانٍ، وميلَهم له، ورضاهم عنه - هو هبةٌ ربانيَّة، فلا يستطيع إنسان أن يُحرز ذلك، ويستحوذ عليه بما أُوتيه من دنيا أو جاه أو منصبٍ.
فإذا ما أحبَّ الله تعالى عبدًا من عباده، وضعَ له القبولَ في الأرض، وأحدثَ له في قلوب المؤمنين مودَّةً، وزرع له فيها مَهابةً، فتحبُّه القلوب، وترضى عنه النفوس، من غير تودُّدٍ منه، ولا تَعَرُّضٍ للأسباب التي تُكتسَبُ بها مَوَدَّاتُ القلوب؛ من قرابة، أو صداقةٍ، أو اصطناع معروفٍ؛ وإنما اختصاص منه لأوليائه بكرامة خاصة، كما يَقذِف في قلوب أعدائه الرُّعبَ والهيبة؛ إعظامًا لهم، وإجلالاً لمكانهم[11].
وفي هذا يقول تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾ [مريم: 96]، والوُدُّ: هو المودَّة والمحبَّة التي يوجِدُها الله تعالى لهم في قلوب العباد[12]، والمقصود هنا هم أهل الإيمان[13].
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا أحبَّ الله العبد، نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأَحْبِبه، فيُحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأَحِبُّوه، فيُحبه أهل السماء، ثم يوضَع له القبول في الأرض))[14].
وقد كان بعضُ السلف يَرْصُدُون محبةَ الله تعالى لبعض عباده من خلال حبِّ أهل الإيمان لهم، عن سُهيل بن أبي صالح قال: كنا بعرفة، فمر عمر بن عبدالعزيز وهو على الموسم، فقام الناس ينظرون إليه، فقلت لأبي: يا أبتِ، إني أرى الله يحب عمر بن عبدالعزيز، قال: وما ذاك؟ قلت: لِما له من الحب في قلوب الناس[15].
أمَّا إذا أبغض اللهُ عبدًا من عباده لفِسقه وضلاله، وسوء فعاله، فإنَّه ينادي في الملأ الأعلى ببُغضه، فيُبغضه جبريل عليه السلام، وكذلك أهل السماء من الملائكة الأطهار عليهم السلام، ثم يورث ذلك بُغضَ أهل الأرض من المؤمنين له[16]؛ ففي الحديث الذي يرويه مسلم عن أبي هريرة قال: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((وإذا أبغَض عبدًا دعا جبريل، فيقول: إني أُبغض فلانًا فأبْغِضه، قال: فيُبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يُبغض فلانًا فأبغِضوه، قال: فيُبغضونه، ثم توضَع له البَغضاء في الأرض))[17].
رابعًا: حماية الله للعبد من الدنيا إن كانت تفسده:
فحبُّ اللهِ تعالى وحبُّ الدنيا والتعلُّق بها: لا يجتمعان في قلب امرئ اختصَّه الله تعالى بالمصافاة والمحبَّة، ومن لُطْفِ الله تعالى بعبده المؤمن الذي لاحت له بوارقُ المحبَّة والاصطفاء - أن يَقِيَه الدُّنيا وأعراضَها، ويصرفَ عنه مشاغلَها[18]؛ ليبقى قلبُه نقيًّا طاهرًا، مستقبلًا لتجليات الله تعالى وفيوضاته، وفي هذا المعنى ورد الحديثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقول: ((إذا أحبَّ الله عبدًا حماه الدنيا؛ كما يَظَلُّ أحدُكم يَحمي سقيمَه الماءَ))[19].
وفي هذا صيانة للعبد عن حلال الدُّنيا وحسابه، وحرامها وعقابه، فهو دفع له عن ضررها، وهذا ابتلاء خاصٌّ فيمن تُفسده الدنيا ويُبطره الغنى[20]، أمَّا من كانت الدنيا في يده ولم تَشغله عن الله تعالى، فلا يَضره أن يَملِكها، كما كان حال سيدنا سليمان عليه السلام وقد آتاه المُلك، وحالُ بعض كبار الصحابة المبشَّرين بالجنة؛ كعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، وهو ما أكده رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله لعمرو بن العاص رضي الله عنه: ((يا عمرو، نِعْمَ المالُ الصالحُ للمَرء الصالحِ))[21].
خامسًا: ابتلاؤه في نفسه وماله وولده:
الابتلاء بالمحن والرزايا سُنةٌ كونيَّة من سنن الله تعالى في هذه الدنيا؛ فقد قال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2]، والمحن والرزايا تصيب المؤمن والكافر على السواء، وليس من مقتضى الإيمان بالله تعالى ومحبته أن يبقى الإنسانُ بمنأى عن هذه الابتلاءات والمحن، فقد قال عزَّ من قائل: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ [العنكبوت: 2]، بل إنَّ الله تعالى إذا أراد أن يخصَّ عبدًا من عباده بمحبته، زاد عليه من البلاء في نفسِه ومالِه وولدِه، فإن رَضِيَ بقضاء الله وصبَر على بلائه، اصطفاه الله تعالى وأهَّلَه لمحبته، وإن كَرِهَ وفَزِعَ، ولم يرضَ بقضاء الله تعالى، رجع بغضب الله تعالى عليه في الدُّنيا، وعذابِ الله له في الآخرة[22]، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن عِظم الجزاء مع عِظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضِي فله الرضا، ومن سخِط فله السخط))[23].
وقد قال بعض العلماء: إذا رأيتكَ تحبُّه، ورأيتَه يَبتليك، فاعلم أنه يريدُ أن يُصَافيَك[24].
ولا يعني ما سبق ذكرُه أن يسأل العبدُ ربه أن يَبتليه، لا؛ فقد علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسأل الله تعالى العافية في كل الأحوال، ولكن المقصود من ذلك أن يصبر الإنسان إذا ابتلاه الله تعالى، ويعلم أن الابتلاء ليس دليلًا على سَخط الله تعالى وغضبه، إنما هو مؤشرٌ وعلامةٌ على رضا الله تعالى ومحبته له، هذا إنْ أُلْهِمَ الصبرَ والرضا بما قضاهُ الله تعالى عليه.
وفي ذلك يقول ابن عطاء[25] في حِكَمِه: "لَيُخَفِّفُ ألمَ البلاء عنك علمُك بأنَّه سبحانه هو المُبلي لك، فالذي واجهتك منه الأقدارُ هو الذي عوَّدك حسنَ الاختيار"، ثم يقول: "مَن ظنَّ انفكاكَ لُطفه عن قدره، فذلك لقصور نظره"؛ أي: مَن ظن انفكاك لُطف الله تعالى وتخلُّفه عن قدره عليه، وما أنزله به من البلايا والمحن، فذلك الظن إنما حصل له لقصور نظرِه الناشئ عن ضَعف اليقين[26].
ولذلك كان المحبُّون والعارفون يشهدون المِنَنَ في المِحَنِ، والعطايا في البَلايا، بل كثيرًا ما يتلذَّذُون بها؛ لِما يعقبها من المزايا، لما توجِبُه مِن شِدة قُرب العبد من مولاه؛ لأنه يُكثر التضرعَ عند نزولها به، والالتجاءَ إلى مَن يعلم سِرَّه ونَجواه، ويستعمل حُسنَ الصبرِ والرضا، والتَّوكل على من أرادَ له هذا القضاءَ[27].
سادسًا: نصره على أعدائه وتأييده وإعانته:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قال: من عادى لي وليًّا، فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إلي بالنوافل حتى أُحبه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويده التي يَبطش بها، ورِجله التي يمشي بها، وإن سألني لأُعطينَّه، ولئن استعاذني لأُعيذنَّه...))[28].
وفي بيان معنى الحديث ينقل ابن حجر العسقلاني[29] عن الطُّوفي[30] قولَه: "اتَّفقَ العلماءُ ممن يُعتَدُّ بقوله أنَّ هذا مجازٌ وكنايةٌ عن نُصرة العبد وتأييده وإعانته، حتى كأنه سبحانه يُنزل نفسَه من عبده منزلةَ الآلات التي يستعين بها، أو بمعنى: كنتُ له في النُّصرة كسَمْعه وبصره ويده ورِجله في المعاونة على عَدوِّه"[31].
سابعًا: حفظ جوارحه من المعصية، فلا يستخدمها إلا فيما يرضي الله:
فقد جاء في الحديث القدسي الذي سبق ذكره أن الله تعالى يقول: ((وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورِجله التي يمشي بها...))[32].
وما ذُكر إنما هو على سبيل التمثيل، والمعنى: كنت سمعه وبصره في إيثاره أمري، فهو يحب طاعتي ويؤثر خدمتي كما يحبُّ هذه الجوارح، أو أن كُلِّيتَه مشغولة بالله، فلا يُصغي بسمعه إلا إلى ما يُرضي الله، ولا يرى ببصره إلا ما أمرَ به الله.
أو على تقدير مضاف محذوف، فيكون المعنى: كنت حافظَ سمعِه الذي يسمع به، فلا يسمع إلا ما يحل استماعُه، وحافظَ بصرِه الذي يُبصر به، فلا يبصر إلا ما يحل النظر إليه...إلخ.
أو على معنى أنَّه لا يسمع إلا ذكري، ولا يلتذُّ إلا بتلاوة كتابي، ولا يأنَس إلا بمناجاتي، ولا ينظر إلا في عجائب ملكوتي، ولا يمدُّ يده إلا فيما فيه رضاي، ورجله كذلك[33].
ثامنًا: إجابة دعائه، وإنجاح مطلوبه:
كرامةً لمن يحبُّهم الله تعالى، وإظهارًا لمزيتهم، فإنَّ الله تعالى يجيبُ دعاءَهم، ويحققُ سُؤلَهم، ففي الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: ((... وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه، كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يُبصر به، ويَدَه التي يَبطِشُ بها، ورِجلَه التي يمشي بها، وإن سأَلَني لأُعطينَّه، ولئن استعاذني لأُعيذنَّه))[34].
وقد قال الإمام الخطابيُّ[35] مبينًا معنى ذلك: "قد يكون عبَّرَ بذلك عن سرعةِ إجابة الدعاء والنُّجح في الطلب؛ وذلك أن مَساعي الإنسان كلَّها إنما تكونُ بهذه الجوارح المذكورة، أو بمعنى: كنتُ أسرع إلى قضاء حوائجه مِن سمعِه في الإسماع، وعينِه في النظر، ويدِه في اللمس، ورِجله في المشي"[36].
بل إنه لشدَّة قربِه من الله، وعظيم محبة الله له، لو أقسم على الله سائلًا أمرًا ما، لأعطاه الله إيَّاه، وفي ذلك يقول رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إن مِن عباد الله مَن لو أَقسَم على الله لأَبَرَّه))[37].
وقد يكون هذا العبد الذي يحبُّه الله مغمورًا في مجتمعه، مغموطَ المنزلةِ بين قومه، غير عابئ بزينة الدنيا ومظاهرها، ولكنَّ الله خصَّه بالمحبة وإجابة الدعاء والنُّصرة؛ لصِدق عُبوديته لله، وطهارة قلبِه وصفائه عما سوى الله، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((رُبَّ أشعثَ مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسَم على الله لأبرَّه))[38].
اللهم إنا نسألك حبَّك، وحبَّ مَن يُحبك، وحبَّ عملٍ يُقربنا إلى حبك.
--------------------------
[1] محمد بن علي بن عطية؛ أبو طالب المكي (ت 386 هـ): واعظ زاهد فقيه، نشأ واشتَهر بمكة، سكن بغداد وتوفي فيها، من كتبه: قوت القلوب، وعلم القلوب؛ لسان الميزان 3: 101، والأعلام 6: 274.
[2] قوت القلوب في معاملة المحبوب، 2: 236.
[3] محمد بن محمد الغزالي الطوسي، أبو حامد، حجة الإسلام (450 - 505 هـ): صاحب التصانيف، والذكاء المفرط، له نحو مائتي مصنَّف، من كتبه: إحياء علوم الدين، وتهافت الفلاسفة، والاقتصاد في الاعتقاد؛ سير أعلام النبلاء 19: 323، والأعلام للزركلي 7: 22.
[4] إحياء علوم الدين 4: 347.
[5] مختصر منهاج القاصدين ص349.
[6] انظر: الجامع لأحكام القرآن 6: 220، ونظم الدرر للبقاعي 2: 483.
[7] إبراهيم بن عمر بن حسن البقاعي، أبو الحسن، برهان الدين ( 809 - 885 هـ): مفسر، مؤرخ أديب، أصله من البقاع في سورية، توفي في دمشق، من كتبه: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، ومصاعد النظر، عنوان الزمان في تراجم الشيوخ والأقران؛ شذور الذهب 7: 339، والأعلام 1: 56.
[8] نظم الدرر للبقاعي 2: 483.
[9] وهذا في حال تعيُّن الجهاد عليه.
[10] انظر: نظم الدرر للبقاعي 2: 483.
[11] فيض القدير 2: 258؛ بتصرف.
[12] انظر: تفسير ابن كثير 5: 269، وتفسير النسفي 3: 46.
[13] ولا بد هنا من التنبيه إلى أن المحبة المعتدَّ بها إنما هي محبة أهل الإيمان لأمثالهم، وإلا فهناك كثير من أهل الفسوق والضلال، والظلم والطغيان، من تجد الجمع الغفير من محبيهم والمعجبين بهم، فهذا فرعون الذي لا يَخفى كفرُه وطغيانه على أحد، إلا أن قومه كانوا محبين له، مطعين لأوامره، وما ذلك إلا لكفرهم وفسوقهم؛ قال تعالى: ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ﴾ [الزخرف: 54].
[14] أخرجه البخاري في بدء الخلق برقم 3037، ومسلم في البر والصلة والآداب برقم 2637.
[15] ذكره مسلم في كتاب البر والصلة والآداب عند رواية الحديث السابق ذكرها برقم 2637.
[16] ولا يَخفى أنه يَجد مِن أهل الفسوق والضلال مَن يُحبه ويُعجَب به.
[17] أخرجه البخاري في بدء الخلق برقم 3037، ومسلم في البر والصلة والآداب برقم 2637.
[18] انظر: إحياء علوم الدين 4: 347.
[19] أخرجه الترمذي في الطب، باب: ما جاء في الحمية برقم: 2036، وقال: حديث حسن غريب، وابن حبان في صحيحه 2: 443 بلفظ: "يحمي سقيمه الماء"، والحاكم في المستدرك 4: 207 - 309، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يُخرجاه، ووافقه الذهبي، وكلهم عن قتادة بن النعمان الظفري البدري.
[20] انظر: التنوير شرح الجامع الصغير 1: 502.
[21] أخرجه أحمد في المسند 4: 197 برقم 17798، والبخاري في الأدب المفرد 1: 112 برقم 299، وابن حبان في صحيحه 8: 6 برقم 3210، والحديث صحيح قوي الإسناد.
[22] انظر: تحفة الأحوذي 7: 65.
[23] أخرجه الترمذي في الزهد، باب: ما جاء في الصبر على البلاء برقم 2396، وقال الترمذي: حديث حسن غريب من هذا الوجه، وابن ماجه عن أنس بن مالك في الفتن، باب الصبر على البلاء برقم 4031؛ قال ابن حجر في الفتح: رواته ثقات، إلا أن محمود بن لبيد اختلف في سماعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقت رآه وهو صغير، وله شاهد من حديث أنس عند الترمذي وحسَّنه.
[24] إحياء علوم الدين 4: 347.
[25] أحمد بن محمد بن عبدالكريم بن عطاء الله الإسكندري، الجذامي، الشهير بابن عطاء الله، تاج الدين أبو العباس (709 هـ): صوفي شاذلي، من العلماء، مشارك في أنواع من العلوم؛ كالتفسير، والحديث، والفقه، والنحو والأصول، من كتبه: الحكم العطائية، التنوير في إسقاط التدبير؛ الأعلام للزركلي1: 222؛ معجم المؤلفين 2: 121.
[26] شرح الحكم للشرنوبي 1: 88.
[27] المصدر السابق.
[28] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: التواضع برقم 6137.
[29] أحمد بن علي الكناني العسقلاني، أبو الفضل، شهاب الدين، ابن حَجَر ( 773 - 852 هـ): من كبار أئمة العلم والتاريخ، أقبل على الحديث، وأصبح حافظ الإسلام في عصره، من كتبه: فتح الباري بشرح البخاري؛ والعجاب في بيان الأسباب؛ شذرات الذهب 7: 270، والأعلام 1: 178.
[30] سليمان بن عبدالقوي الطوفي الصرصري، أبو الربيع، نجم الدين (657 - 716 هـ): فقيه حنبلي، من العلماء، قوي الحافظة، شديد الذكاء، من كتبه: الإكسير في قواعد التفسير، والذريعة إلى معرفة أسرار الشريعة؛ الدرر الكامنة 2: 295، والأعلام للزركلي 3: 127.
[31] انظر: فتح الباري 11: 344.
[32] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: التواضع برقم 6137.
[33] انظر: فتح الباري 11: 344.
[34] سبق تخريجه.
[35] حمد بن محمد بن إبراهيم البُستي أبو سليمان (319 - 388 هـ): فقيه، محدث، أديب، من أهل كابل، له تصانيف بديعة؛ منها: معالم السنن في شرح سنن أبي داود، وشرح البخاري؛ وبيان إعجاز القرآن؛ وفَيَات الأعيان 2: 214، والأعلام 2: 273.
[36] انظر: فتح الباري 11: 344.
[37] أخرجه البخاري في الصلح برقم 2556، ومسلم في القسامة برقم 1675.
[38] أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها برقم 2854.
* موقع الألوكة
طباعة
ارسال