حذَّر الله تعالى ورسولُه صلى الله عليه وسلم من الاختلاف بين المسلمين، والتدابر والتباغض، ومَغبَّته وما يؤول إليه، فقد يقف مآله عند حدِّ المعاصي والتفرق الجزئي، وقد يؤدي إلى تقـاتلٍ يقع بين المسلمين واختلاف، ويبقى في هذا الإطار لا يتعداه.
ولكن قد يحصل من الاختلاف ما هو أخطر من ذلك؛ بالاستعانة بالكفار على المسلمين، أو ما هو أشد؛ بمعاونتهم على المسلمين، أو ما هو أغلظ من ذلك؛ بالقتال مع أهل الصليب ضد المسلمين؛ كما حدث في الأندلس حتى سقطت، وذبح 3 مليون مسلمٍ، وكما حدث في تركستان الإسلامية (جنوب شرق آسيا)، وضياع الجمهوريات الإسلامية الخمس، ومعهم تركستان الشـرقية التي ابتلعتها الصين، وكما حدث لمسلمي القرم والبلقان والقوقاز، وابتلعت روسيا ممالك المسلمين بسبب توليهم الصليبيين على المسلمين، فتتحقق مظاهرة المشـركين أو يكون التآمر معهم سرًّا على أهل الإسلام إضرارًا بهم، واستئصالًا لوجودهم؛ حقدًا أو شهوة، أو ريبةً ونفاقًا.
ولهذا جعل الله تعالى ولاءَ المنافقين هو مناط النفاق ومداره وأبرز مظاهره؛ قال تعالى: ﴿ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 138، 139].
وقد يؤول الأمر إلى ما هو أغلظ وأكثر هوانًا؛ بالدخول تحت ولاية الكافرين، كما حدث في حال مسلمي القرم والقوقاز وقازان واستراخان، ما يندى له الجبين، حتى ابتلعهم الروس!
ومؤدَّى الاختلاف والاضطراب هو التخلي عن ولاء الإسلام ورايته ورابطته رأسًا، وهو المناط المستلزِم لاتخاذ الوليِّ من دون الله، وهو الشرك الصريح، ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 14].
وذلك بردِّ ولاية الإسلام رأسًا؛ بأن يؤدي الاختلاف إلى ترك كل قومية أو عرقٍ أو أهلِ وطنٍ لراية الإسلام، ورجوع كلٍّ إلى راية خاصة تتولى بها وتُقاتِل عليها، وتؤخر ولاء الإسلام ورايته، ووجوده وفاعليته، وتجعل (القوم) أو (الوطن) (نعرات الجنس أو تخوم الأرض) هي رابط الولاء والهُوِية، ويجعلونها هي الرابطة والاعتبار المقدَّم في المحبة على محبة الله تعالى ودينه وأوليائه؛ فتكون هي أساس الولاء؛ بحيث يستجازُ بها ولاء الكافرين على المسلمين، بحجة المصلحة القومية أو الوطنية، وأنهم غير ملزَمين بولاء المسلمين، ويزعمون أن الولاء (الديني) غير ملزِم في عالم المصالح، أو عالم القوميات الوطنية الحديثة، وأن عراقـة الوطن وما يحمله من تاريخ ومراحـل لديانات مختلفة انتهى مفعولها!
ويزعمون أن الوطن الحديث قد تخطى الإسلامَ، كما تخطى ما قبله! وأن الشخصية الوطنية هضمت وابتلعت جميع الديانات والعقائد، فالوطن أبقى من الإسلام، وأعرق منه، وأكثر أصالة وأهمية، وأن الإسلام مفرِّق ومشـرذِم للوطن! وأن هذا يلغي اعتبار الإسلام في الولاء والهُوِية كما هو ملغى الاعتبار اليوم أيضًا في مجال التشريع!
وهذا الكلام مناقض لقول لا إلـه إلا الله، وهو دجل وكذب، ولا يُلزَم به غير المسلمين ولا يُطالَبون به، وحقيقته أنه تديُّن بدين غير الإسلام.
ويقول هؤلاء المجرمون: إن الفوارق العقدية ملغاة الاعتبار أمام المصالح، وإن الموقف من الكيان الصِّهْيَوني كالموقف من أهل فلسطين، وإنهم يقفون على مسافة واحدة من الطرفين، وإن لهم أن يتولوا القوى الكبرى - المرتبطة بالروح الصليبية! - على أي كيان مسلم، وأن الولاء الإسلامي ملغى الاعتبار، بل مرفوض، بل هو نوع من التخلف أو التشدد!
وكل هذا رِدَّة صريحة، تحت شعارات كاذبة، وطلاءات مزيَّفة، والإسلام هو محل الاستهداف من وراء ذلك كله، وأنهم ألسنة للغرب المسيحي المنتصر (مؤقتـًا) والمنصِّر للأمة، خاصة للنخبة التي يضمن لها التمكين والتوجيه، ويكتفي في تنصيره لهم بهذا التشكيك والتذبذب، ويكفيه الرفض للشريعة والهُوِية، ولا يأمل في الدخول في صريح عقيدته الفاسدة، ﴿ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا... ﴾ [النساء: 88]، ثم قال: ﴿ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً... ﴾ [النساء: 89]، وذلك في قومٍ والَوا قومَهم دون المسلمين، وفضَّلوا راية القبيلة على راية العقيدة.
وتركُ ولاء الإسلام ورايتِه هو محل التحذير؛ لأنه غاية الشيطان، ونهاية الاختلاف، ومؤدَّى التدابر والتباغض وخيانة الدين والانسلاخ منه، وقد حذَّر الله تعالى من هذا المناط، فإنه لَمَّا تنادى الأوس إلى (الأوسية)، والخزرج إلى (الخزرجية)، تحت تأثير دعاية ليهود المدينة للتفريق بينهم، خِيف عليهم التخلي عن هُوِية الإسلام لصالح الروابط القبلية، فنزل قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 100]؛ يعني بترك ولاء الإسلام، ثم قال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، آمرًا بالتمسك بالإسلام (عقيدة وشريعة وولاءً)، كل لحظة حتى الموت، ثم قال: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ [آل عمران: 105 - 106].
والمقصود بالتفرق هنا تفرق خاص، وهو التفرق المطلق، بأن تترك كل قبيلة أو عرق أو أهل وطنٍ الإسلامَ، ويرجعون إلى ولاءات أخرى، بدلًا من تقديم ولاء الإسلام والتزامه وخدمته، من خلال الولاءات القومية والوطنية الخادمة.
إن الإسلام ورايته وهُوِيته هو الضامن لوحدة الأمة، والمانع من الاختلاف والتفتيت والتشـرذم، ويمنع تلك الحالة الغثائية، وتلك البيئة الرخوة القابلة للتقسيم والتجزئة؛ ولهذا خاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته من الاختلاف والتراجع، والتخلي عن الراية أشدَّ الخوف، وقد حدَثت مخاوفه صلى الله عليه وسلم، فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: ((منعتِ العراقُ درهمها وقفيزها، ومنعتِ الشام مُديها ودينارها، ومنعت مصرُ إردبَّها ودينارها، وعُدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم))، شهِد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه، فاللهم عودةً وخيرًا قريبًا.
* موقع الألوكة
طباعة
ارسال