الحمد الله على واسع فضله وسابغ نعمه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم صفوة رسله، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فليس ثمة شك في أن أعظم قربة، وأفضل طاعة، يتقرب بها العبد إلى الله من قراءة القرآن الكريم؛ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فقد تعبد الله بها عباده، فقال: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ﴾ [المزمل: 20]، وحث النبي صلى الله عليه وسلم عليها فقال: «اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه»[1]، وقد أعدّ الله لقارئ القرآن من الأجر والثواب ما تقر به عينه، وينشرح به صدره، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن، ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق؛ له أجران»[2]. ولكي ينال المسلم الأجر كاملا، ويحظى بالثواب وافيًا، عليه أن يقرأه بالصفة التي أمر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم، والتي لا تتحقق إلا بمراعاة أصول القراءة، والمحافظة على أحكام التلاوة، المستمدة من قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي نقلت إلينا بالتواتر، وثبتت بالأحاديث الصحيحة، ولا تتأتى هذه الصفة إلا بالتلقي، والمشافهة، والأخذ من أفواه المشايخ المتقنين؛ لأن الأصل في هذا العلم هو التلقي، فقد تلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل، ثم لقنه الصحابة الكرام بنفس الكيفية التي قرأ بها، وهكذا تواترت هذه الكيفية حتى وصلت إلينا، وقد اصطلح العلماء على تسمية هذه الكيفية التي يقرأ بها القرآن بالتجويد، الذي أصبح علمًا قائمًا بذاته، يبحث في الكلمات القرآنية؛ من حيث إعطاء الحروف حقها ومستحقها، حتى يتمكن القارئ من إجادة القراءة، وحسن الأداء، وحفظ لسانه عن الخطأ في قراءة القرآن الكريم؛ حتى تتحقق له سعادة الدارين، ويحظى برضوان الله عز وجل.
♦ ♦ ♦ ♦
إن أعظم نعمة منَّ الله بها على هذه الأمة أن أنزل عليها القرآن الكريم، كلام رب العالمين، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، فيه نبأ ما غبر، وحكم ما حضر، وخبر ما ينتظر، لا تنقضي عجائبه، ولا تتناهى غرائبه، تكفَّل الله بحفظه من التحريف، وتعهد بصونه عن اللحن والتصحيف، فقال: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9]. ومن كمال حفظ القرآن؛ أن يُحفَظ نطقه ولفظه عن اللحن والتصحيف، لذا جعل التلقي والمشافهة مناط أخذه، فقد لقنه سيدنا جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم مشافهة، ثم أقرأه الصحابة - رضوان الله عليهم - بالصفة التي تلقاه بها عن أمين الوحي جبريل، ولقد بلغ من حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إتقان تلاوته، أنه كان يبادر ويستعجل أمين الوحي جبريل قبل أن يفرغ من القراءة، وذلك لشدة حرصه وخوفه من الفوات والنسيان، فنهاه الله عن ذلك، قائلا: ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114] وضمن له الحفظ والنسيان فقال ﴿ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ﴾ [الطارق: 6].
وقال: ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [القيامة: 17 - 19]، فكان سيدنا جبريل إذا انتهى من تلاوة ما أوحى الله؛ اتبع النبي ما قرأه، وأقرأه الصحابة، الذين حثهم على تعلم تلاوته وإتقان قراءته، فقال صلى الله عليه وسلم: «من سَرَّه أن يقرأ القرآن غضًّا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم معبد»،[3] ويدل هذا على أن الصفة التي حث الرسول على أن يقرأ القرآن بها، والتي كان يقرأ بها عبد الله بن مسعود، هي: القراءة التي يتحقق فيها حسن الصوت، ودقة الأداء، وجودة الترتيل. ويدل هذا أيضًا على أن النبي صلى الله عليه وسلم خص طائفة من أصحابه أتقنوا القراءة حتى صاروا أئمة فيها، ومنهم: عثمان بن عفَّان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم، فأمر بالأخذ عنهم، والتلقي عليهم، إذ كان صلى الله عليه وسلم يتعاهدهم بإسماعهم، وإقرائهم تارة كما ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبيّ بن كعب: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك» قال: آلله سماني لك؟ قال: «الله سماك لي» قال أنس: فجعل يبكي[4] كما كان يستمع لقراءتهم تارة أخرى كما ثبت عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرأ عليَّ القرآن» قلت: أأقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: «إني أحب أن أسمعه من غيري» فافتتحت سورة النساء فلما بلغت: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41] قال: «أمسك» فالتفت إليه، فإذا عيناه تذرفان[5].
من كل ما سبق يتبين لنا: أن القرآن لا يقرأ إلا بكيفية ثابتة، وصفة معينة لا يتحقق كمال التلاوة إلا بها، وهي الصفة التي نزل بها القرآن، ولقنها جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذها الصحابة عن رسول الله، فمن خالف هذه الصفة، أو أغفلها وأهمل فيها؛ فقد خالف سنة المصطفى - عليه الصلاة والسلام، وقرأ القرآن على الوجه الذي لا يرضاه الله. وهذه الصفة هي التي أطلق عليها العلماء فيما بعد مصطلح التجويد، وقد وضع العلماء أصول القراءة، وقواعد التلاوة، من أجل المحافظة على اللفظ القرآني من أن يتطرق إليه اللَّحن، وبذلك تحقق وعد الله بحفظه، فعلى كل مسلم أن يراعي أحكام التلاوة، ويحافظ على أصول القراءة؛ حتى ينال الأجر العظيم، والثواب الجزيل من الله.
-------------------------------
[1] [رواه مسلم /1910].
[2] [رواه مسلم / 1898]
[3] [رواه أحمد في مسنده 1 /39]
[4] [رواه البخاري في صحيحه 16 /405].
[5] [رواه البخاري في صحيحه 15 /123].
* موقع الألوكة.
طباعة
ارسال