تفيد معاجم اللغة أن مادة (صبر) تدل على أصول ثلاثة: الأول: الحبس. الثاني: أعالي الشيء. الثالث: جنس من الحجارة.
فالأول: الصبر، وهو الحبس. يقال: صبَّرت نفسي على ذلك الأمر، أي: حبستها. والصبير، هو الكفيل، وإنما سمي بذلك؛ لأنه يصبر على الغُرْم. يقال: صبرت نفسي به أصبر صبراً، إذا كفلت به، فأنا به صبير. وصبرت الإنسان، إذا حلفته بالله جَهْد القسم. قال الطبري: "أصل الصبر: منع النفس محابها، وكفها عن هواها؛ ولذلك قيل للصابر على المصيبة: صابر؛ لكفه نفسه عن الجزع؛ وقيل لشهر رمضان: شهر الصبر؛ لصبر صائميه عن المطاعم والمشارب نهاراً، وصبره إياهم عن ذلك: حبسه لهم، وكفه إياهم عنه، كما تصبر الرجل المسيء للقتل، فتحبسه عليه حتى تقتله؛ ولذلك قيل: قتل فلان فلاناً صبراً، يعني به: حبسه عليه حتى قتله، فالمقتول مصبور، والقاتل صابر".وحكى ابن الأنباري عن بعض أهل العلم، أنه قال: سُمي صبر النفوس: صبراً؛ لأن تمرره في القلب وإزعاجه للنفس، كتمرر الصَّبِر -بكسر الباء: الدواء المرُّ- في الفم.
وأما الثاني فقالوا: صُبْر كل شيء: أعلاه. قالوا: وأصبار الإناء: نواحيه، والواحد: صُبْر -بضم الصاد وكسرها-.
وأما الأصل الثالث فالصُّبْرة من الحجارة: ما اشتد وغلظ، والجمع: صبار. ومما حمل على هذا قول العرب: وقع القوم في أم صبور: إذا وقعوا في أمر عظيم.
ومادة (صبر) وردت في القرآن في ثلاثة ومائة موضع (103) جاءت في واحد وأربعين موضعاً بصيغة الاسم، من ذلك قوله عز وجل: {واستعينوا بالصبر والصلاة} (البقرة:45)، وجاءت في اثنين وستين موضعاً بصيغة الفعل، من ذلك قوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا} (آل عمران:200) وأكثر ما جاءت مادة (صبر) بصيغة الفعل الماضي المفرد، حيث تكررت تسع عشرة مرة، منها قوله تعالى: {واصبر على ما أصابك} (لقمان:17) وتكررت بصيغة جمع المذكر السالم ثماني عشرة مرة، منها قوله سبحانه: {إن الله مع الصابرين} (البقرة:53)، وتكررت بصيغة المبالغة أربع مرات، منها قوله عز وجل: {إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} خُتمت بها أربع آيات: (إبراهيم:5) (لقمان:31) (سبأ:19) (الشورى:33).
وروي عن الإمام أحمد قوله: "ذكر الله تعالى الصبر في القرآن في نحو من تسعين موضعاً، وهو واجب بإجماع الأمة. وهو نصف الإيمان؛ فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر".
وذكر أهل العلم أن لفظ (الصبر) ورد في القرآن الكريم على خمسة معان، هي:
* (الصبر) بمعنى حبس النفس على المكروه، ويقابلها الجَزَع، وأكثر ما جاء في القرآن وَفْق هذا المعنى، من ذلك قول الباري سبحانه: {والصابرين على ما أصابهم} (الحج:35). ومنه أيضاً قوله عز وجل: {قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص} (إبراهيم:21). ونحوه قوله تعالى: {إنا وجدناه صابرا} (ص:44).
* (الصبر) بمعنى الصوم، من ذلك قول الباري سبحانه: {واستعينوا بالصبر والصلاة} (البقرة:45) قال مجاهد: (الصبر) في هذه الآية: الصوم، ومنه قيل لرمضان: شهر الصبر، فجاء الصوم والصلاة على هذا القول في الآية متناسباً في أن الصيام يمنع من الشهوات، ويزهد في الدنيا. وليس بحسب هذا المعنى غيرُ هذه الآية.
* (الصبر) بمعنى الجرأة، من ذلك قول الباري تعالى: {فما أصبرهم على النار} (البقرة:175) قال الحسن وقتادة وابن جبير وغيرهم: ما لهم والله عليها من صبر، ولكن ما أجرأهم على النار! وهي لغة يمنية معروفة. ونُقل عن الكسائي أن خصمين اختصما إليه، فوجبت اليمين على أحدهما، فحلف، فقال له صاحبه: ما أصبرك على الله؟ أي: ما أجرأك عليه. والمعنى: ما أشجعهم على النار؛ إذ يعملون عملاً يؤدي إليها.
* (الصبر) بمعنى الرضا والتسليم بقضاء الله سبحانه، من ذلك قول الباري عز وجل: {واصبر لحكم ربك} (الطور:48) أي: ارض بقضاء الله لك، ولا تضجر ولا تتذمر. ومثله قوله عز من قائل: {فاصبر لحكم ربك} (القلم:48) أي: اصبر لقضاء ربك، و(الحكم) هنا: ما قضاه الله على عبده.
* (صبر) بمعنى الثبات على الشيء، من ذلك قول الباري سبحانه: {أن امشوا واصبروا على آلهتكم} (ص:6) أي: اثبتوا على عبادة آلهتكم، قال ابن عاشور: "حرف {على} يدل على تضمين {اصبروا} معنى: اعكفوا، واثبتوا، فحرف {على} هنا للاستعلاء المجازي، وهو التمكن، مثل {أولئك على هدى من ربهم} (البقرة:5) وليس هو حرف (على) المتعارف تعدية فعل (الصبر) به في نحو قوله: {اصبر على ما يقولون} (المزمل:10)". ووفق هذا المعنى أيضاً قوله تعالى: {إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها} (الفرقان:42) المقصود تفاخرهم بتصلبهم في دينهم، وثباتهم عليه، وأنهم كادوا أن يتبعوا دعوة الرسول بما يلقيه إليهم من الإقناع والإلحاح، فكان تأثر أسماعهم بأقواله، يوشك بهم أن يرفضوا عبادة الأصنام، لولا أنهم تريثوا، وثبتوا على عبادتهم لآلهتهم.
وحاصل ما تقدم: أن لفظ {الصبر} ورد في القرآن الكريم على خمسة معان، وأكثر ما ورد بمعنى كف النفس عن الجزع، وتحمل مصائب الدنيا ونوائبها. وجاء بدرجة تالية بمعنى الثبات على الشيء وملازمته، وجاء بدرجة أقل بمعنى الرضا بقضاء الله، وبمعنى الصوم، وبمعنى الجرأة.
طباعة
ارسال