الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
إذا أقبل الليل بظلامه وسواده، أقبل عليه الصالحون، يستنبطون من داجية حلكته أنوار الصباح، وينسجون من سواده بُرُد الضياء الوضَّاح، ويصنعون من وحشته الأنس والانشراح، وينطقون صمته المهيب بألسنة فصاح.
واعجباه!! كيف أخرجوا النور من قلب الظلمة، وصاغوا حلل الفجر من خيوط الليل؟!
واعجباه!! كيف حولوا الوحشة إلى أنس، والانقطاع إلى صلة؟!
يا ترى، أي سر كشفوه في الليل حتى أحبوه وعشقوه وفضلوا ظلمته على وضح النهار؟! حتى إن سليمان الداراني ليقول: (لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا). ويقول علي بن بكار: (منذ أربعين سنة ما أحزنني إلا طلوع الفجر). ويقول السري: (رأيت الفوائد ترد في ظلم الليل). ويقول الأوزاعي: (كان السلف إذا انصدع الفجر أو قبله بشيء قليل كأن على رؤوسهم الطير مقبلين على أنفسهم، حتى لو أن حميمًا لأحدهم قد غاب عنه حينًا ثم قدم ما التفت إليه).
ترى أي أسرار كانت لهم في الليل؟! أي نجاوى كانت تحملهم على بساطه إلى آفاق رحبة ينقطعون فيها عن دنيا الناس ليعيشوا مع رب الناس؟!
قلت لليل: كم بصدرك سر *** أخبرني ما أروع الأسرار؟!
قال: ما ضاء في ظلامي سر *** كدموع المنيب في الأسحار
نعم، هذه هي أسرار الليل التي هدوا إليها، إنها صلاة المصلين، ودموع الباكين، ومناجاة الخاشعين، إنها زفرات المذنبين، وآهات التائبين، وأنين المستغفرين، إنها دعاء المخبتين، ومناجاة المحبين، ووجد المشتاقين.
بكى أبو سليمان يومًا فقال له ابن أبي الحواري: ما يبكيك؟! قال: (ويحك -يا أحمد-!! كيف لا أبكي وقد بلغني أنه إذا جن الليل، وهدأت العيون، وخلا كل خليل بخليله، واستنارت قلوب العارفين، وارتفعت هممهم إلى ذي العرش، وافترش أهل المحبة أقدامهم بين يدي مليكهم في مناجاته، ورددوا كلامه بأصوات محزونة، جرت دموعهم على خدودهم، وتقطرت في محاريبهم خوفًا واشتياقًا، فأشرف عليهم الجليل -جل جلاله- فنظر إليهم، فأمدهم مهابة وسرورًا، وقال: يا جبريل: نادِ فيهم: ما هذا البكاء الذي أسمع؟! وما هذا التضرع الذي أرى منكم؟! هل سمعتم أو أخبركم عني أحد أن حبيبًا يعذب أحباءه؟! أو ما علمتم أني كريم؟! فكيف لا أرضى؟! أيشبه كرمي أن أرد قومًا قصدوني؟! أم كيف أذل قومًا تعززوا بي؟! أم كيف أحجب غدًا أقوامًا آثروني على جميع خلقي وعلى أنفسهم وتنعموا بذكري؟! فبي حلفت لأبعدن الوحشة عن قلوبهم، ولأكونن أنيسهم إلى أن يلقوني، فإذا قدموا عليّ يوم القيامة فإن أول هديتي إليهم أن أكشف لهم عن وجهي حتى ينظروا إليّ وأنظر إليهم، ثم لهم عندي ما لا يعلمه غيري!!). ثم قال الداراني: (يا أحمد: إن فاتني ما ذكرت لك فيحق لي أن أبكي دمًا بعد الدموع). (رهبان الليل ص520).
فيا حسنهم والليل قد أقبل بحنادس ظلمته، وهدأت عنهم أصوات خليقته، وقدموا إلى سيدهم الذي له يأملون، فلو رأيت -أيها البطال- أحدهم وقد قام إلى صلاته وقراءته، فلما وقف في محرابه واستفتح كلام سيده خطر على قلبه أن ذلك المقام هو المقام الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين، فانخلع قلبه وذهل عقله!
قد هدّ أجسامهم الوعيد وغير ألوانهم السهر الشديد، يتلذذون بكلام الرحمن، ينوحون به على أنفسهم نوح الحمام، يرون أن من أعظم نعم محبوبهم عليهم أن أقامهم وأنام غيرهم، واستزارهم وطرد غيرهم، وأهلهم وحرم غيرهم.
قد يئسوا من الدنيا ويئست منهم، فلو رأيتهم لرأيت رجالاً إذا جنهم الليل مزقوه بسكاكين السهر، إن القوم أعطوا المجهود من أنفسهم، فلما دبرت المفاصل من الركوع، وقرحت الجباه من السجود، وتغيرت الألوان من السهر، ضجوا إلى الله بالاستغاثة، فهم أحلاف اجتهاد لا يسكنون إلى غير الرحمن: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} (السجدة:16).
بكى الباكـون للرحمن ليلاً *** وباتوا دمعهم لا يسأمونا
بقاع الأرض من شوق إليهم *** تحن متى عليها يسجدونا
فلما علم الله صدق همتهم، وصفاء نيتهم، جعل لهم نورًا يمشون به في الناس؛ قيل للحسن البصري: ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوهًا؟! قال: (لأنهم خلوا بنور الرحمن فألبسهم نورًا من نوره).
وقال عبد العزيز بن عمير: (إن الرجل لينقطع إلى بعض ملوك أهل الدنيا فيرى أثره عليه، فكيف بمن ينقطع إلى الله -عز وجل- كيف لا يرى أثره عليه؟!).
لقد سمعوا نداء الله حين يتنزل في الثلث الأخير ويقول: "هل من مستغفر؟! هل من تائب؟! هل من سائل؟! هل من داع؟! حتى ينفجر الفجر"، فاستحوا أن لا يجيبوا خالقهم ومولاهم.
أخذ الفضيل بن عياض بيد الحسين بن زياد وقال: (يا حسين: ينزل الله كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول الرب: كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني؟! أليس كل حبيب يحب خلوة حبيبه؟! ها أنا ذا مطّلع على أحبائي إذا جنهم الليل، غدًا أقر أعينهم في جناتي).
وقال سفيان الثوري: (بلغنا أنه إذا كان أول الليل نادى منادٍ: ألا ليقم العابدون، قال: فيقومون فيصلون ما شاء الله، ثم ينادي في وسط الليل: ألا ليقم القانتون، قال: فيقومون كذلك يصلون إلى السحر). قال: (فإذا كان السحر نادى منادٍ: أين المستغفرون؟! قال: فيستغفر أولئك ويقوم آخرون يصلون، فإذا طلع الفجر نادى منادٍ ألا ليقم الغافلون، فيقومون من فرشهم كالموتى نشروا من قبورهم).
وقال ابن مسعود: (حسب الرجل من الخيبة والشر أن ينام حتى يصبح وقد بال الشيطان في أذنه).
لقد أبوا أن يبول الشيطان في آذانهم، وقالوا مع نبيهم: "مضى عهد النوم يا خديجة"، وشمروا عن ساعد الجد ليزاحموا أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بالركب، وجعلوا من دموعهم رسائل إلى ربهم.
{كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأسْحَـارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الذاريات:17-18).
إذا ما الليل أظلم كابـدوه *** فيسـفر عنهم وهـم ركـوعُ
أطار الخوف نومهمُ فقامـوا *** وأهـل الأمن في الدنيا هجوعُ
لهم تحت الظلام وهم سجود *** أنين منـه تنفـرج الضلـوع
قال أبو الزناد: (كنت أخرج من السحر إلى مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا أمرُّ ببيت إلا وفيه قارئ، وكنا ونحن فتيان نريد أن نخرج لحاجة فنقول: موعدكم قيام القراء).
قال الحسن بن عرفة ليزيد بن هارون: (يا أبا خالد: ما فعلت العينان الجميلتان؟! قال: ذهب بهما بكاء الأسحار!).
وقال الحسن: (كان عمر -رضي الله عنه- يمر بالآية من ورده بالليل فيبكي حتى يسقط، ويبقى في البيت يعاد للمرض).
وكان ابن عمر يحيي الليل صلاة ثم يقول: (يا نافع: أسحرنا؟! فيقول: لا، فيعاود، فإذا قال: نعم، قعد يستغفر الله حتى يصبح).
وكان عتبة الغلام يقول في ليله على ساحل البحر: (إن تعذبني فإني لك محب، وإن ترحمني فإني لك محب، فلم يزل يرددها ويبكي حتى يصبح).
رجع أبو ريحانة من بعث غزا فيه، فلما انصرف أتى أهله فتعشى، ثم دعا بوضوء فتوضأ، ثم قام إلى مسجده فقرأ سورة ثم أخرى، فلم يزل مكانه حتى أذّن المؤذن، فأتته امرأته فقالت: (قد غزوت فتعبت، ثم قدمت إليّ ولم يكن لي منك نصيب! فقال: بلى، لو ذكرتني لكان لك عليّ حق. قالت: فما الذي يشغلك يا أبا ريحانة؟! قال: لم يزل يهوى قلبي فيما وصف الله في جنته حتى سمعت المؤذن!!).
كان ثابت يقوم من الليل، فإذا أصبح يأخذ قدميه فيعصرهما ويقول: مضى العابدون وقطع بي! وا لهفاه!
ثابت بن أسلم البناني كان يقوم الليل خمسين سنة، فإذا كان السَّحَر قال في دعائه: (اللهم إن كنت أعطيت أحدًا من خلقك الصلاة في قبره فأعطنيها).
وكانت لداود ركعة من الليل يبكي فيها نفسه، ويبكي ببكائه كل شيء، ويصرف بصوته الهموم والأحزان.
نزف البكاء دموع عينك فاستعر *** عينًا لغيرك دمعها مـدرار
من ذا يعيرك عينـه تبكي بهـا *** أرأيت عينـًا للبكـاء تُعارُ
وكانت حبيبة العدوية إذا صلت العتمة قامت فقالت: (إلهي: غارت النجوم ونامت العيون، وغلقت الملوك أبوابها وبابك مفتوح، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك، ثم تصلي، فإذا كان السحر قالت: اللهم هذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري هل قبلت مني ليلتي فأُهَنَّى أم رددتها عليّ فأُعَزَّى؟!).
ورُوي عن طلق أنه كان إذا قام من الليل لا يركع إذا افتتح سورة البقرة حتى يبلغ العنكبوت، وكان يقول: (أشتهي أن أقوم حتى يشتكي صلبي!).
هكذا إذا عرفوا أسرار الليل وعاشوا صفاءه وجماله، فكانوا يتهيؤون له ويستقبلونه بأحسن ما عندهم.
كان لعمرو بن الأسود حلة بمائتي درهم يلبسها إذا قام إلى صلاة الليل.
كان أبو حنيفة إذا أراد أن يصلي من الليل تزين حتى يسرح لحيته.
كان تميم الداري إذا قام من الليل تطيب بالغالية، واشترى حلة بألف كان يصلي فيها.
وهكذا عرفوا أسرار الليل وعاشوا صفاءه وجماله، فلم يعدلوا به شيئًا، ولئن توهم متوهم جنته في دنياه ومتاعه فإن جنة المؤمن في محرابه، كان عبد العزيز بن أبي رواد يفرش له الفراش فيضع يده عليه ويقول: (ما ألينك!! ولكن فراش الجنة ألين منك، ثم يقوم إلى صلاته).
قيل لحسان بن أبي سنان في مرضه: (ما تشتهي؟! قال: ليلة بعيدة ما بين الطرفين أحيي ما بين طرفيها).
بكى أبو الشعثاء عند موته فقيل له: ما يبكيك؟! فقال: (لم أشتف من قيام الليل!!).
فيا لشوقٍ عَمَر قلوبهم!! ويا لأسرار تكشفت لهم في ذلك الليل فأسهرتهم حين نام الغافلون، وأشجتهم حين غفل الخليون!!
وعن إياس بن معاوية أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لابد من صلاة بليل ولو حلب شاة". (رواه الطبراني وضعفه الألباني).
وفي الحديث الحسن أن جبريل قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل". (الطبراني بسند حسن).
واسمع لتعجب، عن أبي الدرداء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم… والذي له امرأة حسنة وفراش لين حسن فيقوم لله، فيقول: يذر شهوته ويذكرني، ولو شاء رقد، والذي إذا كان في سفر وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا، فقام من السحر في سراء وضراء". (الطبراني بإسناد حسن).
أي أخي: لو سرت عن هواك خطوات لاحت لك الخيام، ولو هجرت فراشك من الليل لاستقبلتك الحور العين، ولو صدقت العزم لأقامك الله بين يديه في الليل،غفلنا عن دأب الصالحين فضاع علينا ثواب الصالحين، وغلفنا قلوبنا بالمعاصي النكر، فضاعت علينا أسرار الليل ونسائم السحر.
ويا أيها الشاب: وهبك الله القوة والعزم، فأين جزاء الشاكرين؟! قال محمد بن يوسف: (كان الثوري يقيمنا الليل فيقول: قوموا يا شباب، صلوا ما دمتم شبابًا، إذا لم تصلوا اليوم فمتى؟!).
عن سالم عن أبيه قال: (أول ما ينقص من العبادة التهجد بالليل، ورفع الصوت فيها بالقراءة).
كان مخلد بن الحسين يقول: (ما انتبهت من الليل إلا أصبت إبراهيم بن أدهم يذكر الله فأغتم! ثم أتعزى بقوله: {ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} (المائدة:54).
فاللهم إنا نسألك من فضلك العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه والتابعين، وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
* إسلام ويب.
طباعة
ارسال