ومما يلتفت إليه طالب الحديث أيضًا: تحصيل الاتصال بهذه الدواوين وغيرها، بالسماع والإجازة والرواية، وذلك يكون بطرق تحمل الحديث وروايته بالإسناد المتصل إلى أصحابها، فيقرأ هذه الكتب على شيخ مسند متقن، أو يسمعها قراءة عليه، وإن كان ضابطًا لها فيصح له تحملها بالإجازة وروايتها.
لأن في تحصيل الإسناد والاتصال بأصحاب كتب الحديث والسنة من الصحاح، والسنن، والمسانيد، والمعاجم، وغيرها عدة فوائد مهمة:
منها: أن الإسناد من الدين: وإن كان تحصيله في زماننا شرفيًا، فالإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، وهو من خصائص أمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن علم الحديث بعد ازدهاره وتأصيله أصبح يعتمد على ركنين مهمين:
الأول: وهو الإسناد والتلقي.
والثاني: وهو المتن، فقد يتعدد للمتن الواحد عدة أسانيد وبطرق شتى.
وقد اهتم جمع من أهل العلم بذكر أهمية الإسناد والتلقي، فقد جاء في صحيح الإمام مسلم؛ عن عبدان بن عثمان يقول: سمعت عبدالله بن المبارك يقول: "الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء". وقال محمد بن عبدالله، حدثني العباس بن أبي رزمة، قال: سمعت عبدالله يقول: "بيننا وبين القوم القوائم يعني الإسناد".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
"علم الإسناد والرواية مما خصَّ الله به أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وجعله سُلَّماً إلى الدراية، فأهل الكتاب لا إسناد لهم يأثرون به المنقولات، وهكذا المبتدعون من هذه الأُمَّة أهل الضلالات، وإنما الإسناد لِمَنْ أعظم الله عليه المِنَّة، أهل الإسلام والسُّنَّة، يُفرقون به بين الصحيح والسقيم، والمُعْوَجِّ والقويم".
وذكر الخطيب البغدادي - رحمه الله - عن محمد بن حاتم بن المظفر - رحمه الله - أنه قال:
"إن الله أكرم هذه الأمة وشرفها وفضلها بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها قديمها وحديثها إسناد، وإنما هي صحف في أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم، وليس عندهم تمييز بين ما نزل من التوراة والإنجيل مما جاءهم به أنبياؤهم، وبين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي أخذوها عن غير الثقات".
ومن الفوائد أيضًا: ضبط الألفاظ والكلمات: ذلك أن الذي يتلقى هذه الكتب بالسماع والقراءة، يحصل له من ضبط الألفاظ والكلمات الشيء العظيم، فيعرف الفروق بين المعاني، وأوجه القراءة، والمتشابهات في الخط، المفترقات في المعنى، والأسماء والألقاب والكنى، فيضبط كل ذلك مرة بعدة مرة، كما يعتني بضبط المتفق والمفترق، وهذا من الأهمية بمكان، وقد قال النووي في ذلك: "هو متفق خطاً ولفظاً، وللخطيب فيه كتاب نفيس وهو أقسام:
الأول: اتفقت أسماؤهم وأسماء آبائهم، كالخليل بن أحمد، ستة.
أولهم: شيخ سيبويه ولم يسم أحد أحمد بعد نبينا - صلى الله عليه وسلم - قبل أبي خليل هذا. والثاني: أبو بشير المزني البصري. الثالث: أصبهاني. الرابع: أبو سعيد السجزي القاضي الحنفي. الخامس: أبو سعيد البُستي القاضي، روي عنه البيهقي. السادس: أبو سعيد البُستي الشافعي، عنه أبو العباس العُذري.
الثاني: اتفقت أسماؤهم وأسماء آبائهم وأجدادهم، كأحمد بن جعفر بن حمدان أربعة، كلهم يروون عمن يسمى عبدالله، وفي عصر واحد. أحدهم: القَطيعي أبو بكر عن عبدالله بن أحمد بن حنبل. الثاني: السَقطي أبو بكر عن عبدالله بن أحمد الدورقي. الثالث: دِينَوَري عن عبدالله بم محمد بن سنان. الرابع: طرطوسي عن عبدالله بن جابر الطرطوسي، محمد بن يعقوب بن يوسف النيسابوري اثنان في عصر روى عنهما الحاكم، أحدهما: أبو العباس الأصم، والثاني: أبو عبدالله بن الأخرم الحافظ.
الثالث: ما اتفق في الكنية والنسبة، كأبي عمران الجَوني اثنان: عبدالملك التابعي، وموسى بن سهيل البصري، وأبي بكر بن عياش ثلاثة: القاري، والحمصي، عنه جعفر بن عبدالواحد، والسُلمي الباجُدّائي.
الرابع: عكسه، كصالح بن أبي صالح أربعة: مولى التوأمة، والذي أبوه أبو صالح السَمان، والسَدوسي، عن علي وعائشة ومولى عمرو بن حُريث.
الخامس: اتفقت أسماؤهم وأسماء آبائهم وأنسابهم، كمحمد بن عبدالله الأنصاري القاضي المشهور عنه البخاري، والثاني: أبو سلمة ضعيف.
السادس: في الاسم أو الكنية، كحماد، وعبدالله، وشبهه. قال سلمة بن سليمان: إذا قيل بمكة عبدالله فهو الزبير، أو بالمدينة فابن عمر، وبالكوفة ابن مسعود، وبالبصرة ابن عباس، وبخراسان ابن المبارك، وقال الخليلي: إذا قاله المصري فابن عمرو، والمكي فابن عباس، وقال بعض الحفاظ: إن شعبة يروي عن شعبة عن ابن عباس، كلهم أبو حمزة بالحاء والزاي، إلا أبا جمزة بالجيم والراء نصر بن عمران الضُبعي، وإنه إذا أطلقه فهو بالجيم.
السابع: في النسبة، كالآمُلي. قال السمعاني: أكثر علماء طَبَرستان من آمُلها، وشهر بالنسبة إلى آمُل جيحون، عبدالله بن حماد شيخ البخاري، وخطئ أبو علي الغساني، ثم القاضي عياض في قولهما إنه إلى آمُل طبرستان، ومن ذلك الحنفي إلى بني حنيفة وإلى المذهب، وكثير من المحدثين ينسبون إلى المذهب حنيفي بزيادة ياء، ووافقهم من النحويين ابن الأنباري وحده، ثم ما وجد من هذا الباب غير مبين فيعرف بالراوي أو المروي عنه أو ببيانه في طريق آخر، والله أعلم" "[1] أهـ.
ومن الفوائد: معرفة الأعلام والوفيات، والتراجم والسير، والأحداث والتأريخ: ذلك أن القاريء أو السامع يقرأ من التراجم والسير والأعلام كالصحابة والخلفاء والعشرة المبشرين بالجنة وغيرهم، وكذلك من التابعين وتابعيهم بإحسان، كسعيد بن المسيب، وعبدالله بن المبارك، وسفيان بن عيينة، والثوري، وابن دينار، والحسن البصري، والأوزاعي، ومجاهد، وسعيد بن جبير، ومحمد بن شهاب الزهري، وابن عساكر، والمزي، والذهبي، وابن رجب الحنبلي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وغيرهم كثير، فيعرف من سيرهم وحياتهم، ورحلتهم وطلبهم، ومؤلفاتهم وكتبهم، وأخلاقهم وخشيتهم، وتقواهم وعبادتهم، ما لو ظل وحده ما عرف من ذلك إلا النذر اليسير.
ومن الفوائد: حصول الاتصال بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكثرة الصلاة والسلام عليه، بسماع حديثه، وقراءته، والانتفاع بمجالسه، وكفى بهذه فائدة، فإن من العلماء من شدد النكير والمنع على رواية الحديث بلا إسناد من سماع أو إجازة أو عزو لمصدره الصحيح، وشدد المنع في ذلك تحريًا للحق والصواب، كما قال ابن خير الإشبيلي: "أجمع العلماء على أنه لا يصح لمسلم أن يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا... حتى يكون عنده ذلك القول مروياً ولو على أقل وجوه الرواية".
ومن الفوائد: أن التلقي والسماع والاستجازة بالأسانيد والمرويات من الشيوخ والمسندين، من علامات أهل الإيمان والحديث والسنة، خلافًا لحال أهل البدع والأهواء، كما قال ابن رحمون: "كان من سنة علماء الحديث طلب الإجازة في القديم والحديث حرصاً على بقاء الإسناد ومحافظة على الشريعة، وهي التي نسيت في هذه الأعصار، وأهملوا السند والإجازة وحسبوا أن العلم بمجرد التدريس والحيازة".
ومن الفوائد: الرفق بطلاب العلم والحديث، والتيسير عليهم في مشقة الرحلة والسفر، فكثير منهم، تقع لهم الموانع كالمرض، والفقر، ومنع السلطان، وقطاع الطرق، وغيرها، وقد قال الحافظ أبو طاهر السلفي: "ومن منافع الإجازة أيضا أن ليس كل طالب، وباغ للعلم فيه راغب يقدر على سفر ورحلة؛ وبالخصوص إذا كان مرفوعًا إلى علة أو قلة أو يكون الشيخ الذي يرحل إليه بعيدًا وفي الوصول إليه يلقى تعبًا شديدًا. فالكتابة حينئذ أرفق، وفي حقه أوفق؛ ويعد ذلك من أنهج السَنن، وأبهج السُنن، فيكتب من بأقصى المغرب إلى من بأقصى المشرق فيأذن له في رواية ما يصح لديه من حديث عنه، ويكون ذلك المروي حجة كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقد صح عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه كتب إلى كسرى وقيصر وغيرهما مع رسله فمن أقبل عليهم وقبل منهم فهو حجة له، ومن لم يقبل ولم يعمل فحجة عليه".
وقال الإمام الحافظ ابن رشيد السبتي (ت 721هـ) - رحمه الله - حيث قال:
"وإنما اعتمد الناس منذ مدة متقدمة على الإجازة المطلقة والكتابة المطلقة توسعة لباب النقل وترحيباً لمجال الإسناد، لعزة وجود السماع على وجه في هذه الأعصار: بل قبلها بكثير، وتعذر الرحل في أكثر الأحوال، واعتماداً على أن الأحاديث لما صارت في دفاتر محصورة، وأمات مصنفات مشهورة، ومرويات الشيوخ في فهارس مفهرسة، قام ذلك عندهم مقام التعيين الذين كان من مضى من السلف يفعله، فاكتفى المجيزون بالإخبار الجملي، واعتمدوا في البحث عن التفصيل على المجاز إذا تأهل، فكانت رخصة أخذ بها جماهير أهل العلم إبقاء لسلسلة الإسناد التي خصت بها هذه الأمة، ولله الحمد والمنة"[2]. والفوائد كثيرة معلومة.
ولهذا اعتنى جم غفير من السلف الصالح، وإلى يومنا هذا بالإسناد وتحمله، وتحصيل السماعات والإجازات في كتب السنة والحديث، والفقه والشريعة واللغة وغيرها، لعلمهم أن الإجازة والرواية سنة ماضية في هذه الأمة، وأنها من علامات أهل السنة والجماعة. ولهذا نجد من جمع مسموعاته ومروياته عن شيوخه في كتب ومصنفات وأجزاء، وبعضهم جعلها على أبواب في العلم، وبعضهم جمعها في ثبت أو برنامج أو فهرس، وبعضهم يجعلها بذكر مشيخته وإجازاته، ولهذا كثرت الأثبات والمعاجم والفهارس في تدوين هذه المسموعات والإجازات، وذلك لكمال عنايتهم وإجلالهم لها. قال الإمام صلاح الدين الصفدي: "وأما كتب المحدثين في معرفة الصحابة رضي الله عنه مثل الاستيعاب لابن عبدالبر، وأسد الغاب لابن الأثير، وغيرهما وكتب الجرح والتعديل والأنساب ومعاجم المحدثين ومشيخات الحفاظ والرواة، فإنها شيء لا يحضره حد، ولا يقصره عد، ولا يستقصيه ضبط، ولا يستدنيه ربط، لأنها كاثرت الأمواج أفواجاً، وكابرت الإدراج اندراجاً"[3].
----------------------------
[1] انظر التقريب والتيسير للإمام النووي.
[2] السنن الأبين والمورد الأمعن: 55،54.
[3] كتاب الوافي بالوفيات: للصفدي: 1/55.
* المصدر: موقع الألوكة.
طباعة
ارسال