الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن سار على نهجه واتبع هداه إلى يوم الدين وبعد:
لا شك أن الله عز وجل يمتحن إيمان عبده كما قال تعالى : " الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ " [العنكبوت: 1 - 3]، وقال تعالى : " أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ " [البقرة: 214] .
لكن هذا الابتلاء من الله لا يتعرض له المسلم؛ فالجهاد شاق على النفوس كما قال تعالى : " كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ " [البقرة: 216]، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تمني لقاء العدو .
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله : " اعلم أن تمني لقاء العدو يتضمن أمرين : أحدهما : استدعاء البلاء، والثاني : ادعاء الصبر، وما يدري الإنسان كيف يكون صبره على البلاء، والمدعي متوكل على قوته معرض بدعواه عن ملاحظة الأقدار وتصرفها، ومن كان كذلك وكل إلى دعواه كما تمنى الذي فاتتهم غزاة بدر فلم يثبتوا يوم أحد، وكما أعجبتهم كثرتهم يوم حنين فهزموا، وقد نبه هذا الحديث على أنه لا ينبغي لأحد أن يتمنى البلاء بحال، وقد قال بعض السلف : كنت أسأل الله الغزو، فهتف بي هاتف : " إنك إن غزوت أسرت، وإن أسرت تنصرت " " . أ . هـ . " كشف المشكل " (3/429،430)
روى البخاري ومسلم في " صحيحهما " عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَكَانَ كَاتِبًا لَهُ قَالَ : كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَرَأْتُهُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا قَالَ : " أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ "، ثُمَّ قَالَ : " اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِيَ السَّحَابِ وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ " .
قال الإمام النووي رحمه الله : " قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا تَمَنَّوْا لِقَاء الْعَدُوّ، وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا "، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى " لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاء الْعَدُوّ، وَاسْأَلُوا اللَّه الْعَافِيَة، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّة تَحْت ظِلَال السُّيُوف ", إِنَّمَا نَهَى عَنْ تَمَنِّي لِقَاء الْعَدُوّ لِمَا فِيهِ مِنْ صُورَة الْإِعْجَاب، وَالِاتِّكَال عَلَى النَّفْس, وَالْوُثُوق بِالْقُوَّةِ, وَهُوَ نَوْع بَغْي, وَقَدْ ضَمِنَ اللَّه تَعَالَى لِمَنْ بُغِيَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْصُرهُ, وَلِأَنَّهُ يَتَضَمَّن قِلَّة الِاهْتِمَام بِالْعَدُوِّ وَاحْتِقَاره, وَهَذَا يُخَالِف الِاحْتِيَاط وَالْحَزْم, وَتَأَوَّلَهُ بَعْضهمْ عَلَى النَّهْي عَنْ التَّمَنِّي فِي صُورَة خَاصَّة, وَهِيَ إِذَا شَكَّ فِي الْمَصْلَحَة فِيهِ وَحُصُول ضَرَر, وَإِلَّا فَالْقِتَال كُلّه فَضِيلَة وَطَاعَة .
وَالصَّحِيح : الْأَوَّل, وَلِهَذَا تَمَّمَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَاسْأَلُوا اللَّه الْعَافِيَة "، وَقَدْ كَثُرَتْ الْأَحَادِيث فِي الْأَمْر بِسُؤَالِ الْعَافِيَة, وَهِيَ مِنْ الْأَلْفَاظ الْعَامَّة الْمُتَنَاوِلَة لِدَفْعِ جَمِيع الْمَكْرُوهَات فِي الْبَدَن وَالْبَاطِن فِي الدِّين وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَة، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلك الْعَافِيَة الْعَامَّة لِي وَلِأَحِبَّائِي وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ .
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا " فَهَذَا حَثّ عَلَى الصَّبْر فِي الْقِتَال، وَهُوَ آكَد أَرْكَانه, وَقَدْ جَمَعَ اللَّه سُبْحَانه آدَاب الْقِتَال فِي قَوْله تَعَالَى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ " " . أ . هـ . " شرح النووي على صحيح مسلم " (12/45،46)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله : " قَالَ اِبْن بَطَّال : حِكْمَة النَّهْي : أَنَّ الْمَرْء لَا يَعْلَم مَا يَئُول إِلَيْهِ الْأَمْر, وَهُوَ نَظِير سُؤَال الْعَافِيَة مِنْ الْفِتَن, وَقَدْ قَالَ الصِّدِّيق : " لَأَنْ أُعَافَى فَأَشْكُر أَحَبّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُبْتَلَى فَأَصْبِر" .
وَقَالَ غَيْره : إِنَّمَا نَهَى عَنْ تَمَّنِي لِقَاء الْعَدُوّ لِمَا فِيهِ مِنْ صُورَة الْإِعْجَاب، وَالْإِتْكَال عَلَى النُّفُوس، وَالْوُثُوق بِالْقُوَّةِ، وَقِلَّة الِاهْتِمَام بِالْعَدُوِّ, وَكُلّ ذَلِكَ يُبَايِن الِاحْتِيَاط وَالْأَخْذ بِالْحَزْمِ .
وَقِيلَ : يُحْمَل النَّهْي عَلَى مَا إِذَا وَقَعَ الشَّكّ فِي الْمَصْلَحَة أَوْ حُصُول الضَّرَر, وَإِلَّا فَالْقِتَال فَضِيلَة وَطَاعَة .
وَيُؤَيِّد الْأَوَّل : تَعْقِيب النَّهْي بِقَوْلِهِ " وَسَلُوا اللَّه الْعَافِيَة "، وَأَخْرَجَ سَعِيد بْن مَنْصُور مِنْ طَرِيق يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير مُرْسَلًا : " لَا تَمَنَّوْا لِقَاء الْعَدُوّ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ عَسَى أَنْ تُبْتَلَوْا بِهِمْ "، وَقَالَ اِبْن دَقِيق الْعِيد : لَمَّا كَانَ لِقَاء الْمَوْت مِنْ أَشَقّ الْأَشْيَاء عَلَى النَّفْس وَكَانَتْ الْأُمُور الْغَائِبَة لَيْسَتْ كَالْأُمُورِ الْمُحَقَّقَة لَمْ يُؤْمَن أَنْ يَكُون عِنْد الْوُقُوع كَمَا يَنْبَغِي فَيُكْرَه التَّمَنِّي لِذَلِكَ، وَلِمَا فِيهِ لَوْ وَقَعَ مِنْ اِحْتِمَال أَنْ يُخَالِف الْإِنْسَان مَا وَعَدَ مِنْ نَفْسه, ثُمَّ أُمِر بِالصَّبْرِ عِنْد وُقُوع الْحَقِيقَة " . اِنْتَهَى " .
وقد تمنى بعض الصحابة الجهادَ وهم بمكة وعدوهم بلغ أذاه لهم أقصاه، فلما هاجروا إلى المدينة وفُرِضَ عليهم القتال تمنى بعضهم لو أُمهلوا أكثر .
قال تعالى : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا " [النساء: 77] .
قال الإمام السعدي رحمه الله : وكان بعض المؤمنين يودون أن لو فرض عليهم القتال في تلك الحال غير اللائق فيها ذلك، وإنما اللائق فيها : القيام بما أمروا بها في ذلك الوقت من التوحيد، والصلاة، والزكاة ونحو ذلك كما قال تعالى " ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا "، فلما هاجروا إلى المدينة وقوي الإسلام كتب عليهم القتال في وقته المناسب لذلك، فقال فريق من الذين يستعجلون القتال قبل ذلك خوفاً من الناس وضعفاً وخوراً " ربنا لم كتبت علينا القتال " ؟، وفي هذا تضجرهم، واعتراضهم على الله، وكان الذي ينبغي لهم ضد هذه الحال التسليم لأمر الله، والصبر على أوامره، فعكسوا الأمر المطلوب منهم، فقالوا : " لولا أخرتنا إلى أجل قريب " أي : هلا أخرت فرض القتال مدة متأخرة عن الوقت الحاضر، وهذه الحال كثيراً ما تعرض لمن هو غير رزين واستعجل في الأمور قبل وقتها فالغالب عليه أنه لا يصبر عليها وقت حلولها، ولا ينوء بحملها بل يكون قليل الصبر " . أ . هـ . " تفسير السعدي " (ص188)
هذا، وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الكرام وسلم، والحمد لله رب العالمين .
* المصدر: الجمعية السعودية للسنة وعلومها
طباعة
ارسال