كان بقاء عدد كبير من الأحاديث الصحيحة خارج "الصحيحين" دافعا ومحركا لهمة الحفاظ والمحدثين لجمعها واستيعابها والتصنيف فيها، وكان من أبرز من فعل ذلك: الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري، فقد صنف كتابا سماه "مختصر المختصر من المسند الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم"، واشتهر على ألسنة الحفاظ والمحدثين باسم "صحيح ابن خزيمة"، لكونه اشترط فيه الصحيح .
وقد احتل كتابه صدارة الكتب الصحيحة بعد البخاري ومسلم، وفي ذلك يقول الحافظ ابن عدي: "صحيح ابن خزيمة يكتب بماء الذهب، فإنه أصح ما صنف في الصحيح المجرد بعد الشيخين البخاري ومسلم"، وقال الإمام المناوي نقلاً عن الإمام الحازمي: "صحيح ابن خزيمة أعلى رتبة من صحيح ابن حبان لشدة تحريه؛ وأصح من صنف في الصحيح بعد الشيخين: ابن خزيمة فابن حبان فالحاكم".
وقد كان الإمام ابن خزيمة عالما فقيها بصيرا بالرجال، يدل على ذلك منهجه وشروطه وضوابطه، التي نصَّ بنفسه على بعضها، واستُنتج البعض الآخر، وهي في مُجملها تستحق أن يتم التوقف عندها، وأن يُعتنى بها، حتى تكون نبراسا لكل من أراد معرفة منهجه ومسلكه.
منهج الإمام ابن خزيمة المتعلق بالأسانيد
أولاً: شروطه في أسانيد صحيحه:
1- صحة الإسناد: أن يكون الحديث متصل الإسناد، بنقل الثقة عن الثقة، من أوله إلى منتهاه، سالما من الشذوذ ومن العلة، إلا ما كان من الأحاديث التي توقف فيها أو أعلَّها أو قدَّم المتن على السند.
2- ثبوت اللقاء: أن تثبت ملاقاة الراوي من روى عنه، دون الاكتفاء بالمعاصرة وإمكانية اللقاء فقط، ويدل على اشتراطه لذلك ما ذكره في أحد الأبواب، حيث قال: "باب إدخال الأصبعين في الأذنين عند الأذان، إن صح الخبر، فإن هذه اللفظة لستُ أحفظها إلا عن حجاج بن أرطأة، ولست أفهم: أسمع الحجاج هذا الخبر من عون بن أبي جحيفة أم لا؟ فأشك في صحة هذا الخبر لهذه العلة".
3- ذِكر العلة إذا أورد حديثا معلولا: قد يورد الإمام ابن خزيمة أحاديث ضعيفة، لكنه يذكر علتها أو يتوقف في الحكم عليها أو يقدِّم المتن على السند، وقصده بذلك بيان علة الحديث.
ثانياً: منهجه في ترتيب أحاديث صحيحه:
1- الترتيب على أبواب الفقه: بنى الإمام ابن خزيمة كتابه على تراجم الفقه، حيث يخرج الباب من الحديث، لينتزع منه الدلالة على ما ترجمه به، وأحيانا يستدل للمسألة بعدد من الأحاديث على طريقة استخراج الفقه منها، أو الفوائد الحديثية المتضمنة لها.
2- ترتيب الأحاديث في الباب: لم يكن للإمام ابن خزيمة منهج مطرد في ترتيب أحاديث الباب الواحد، بل كان ترتيب أحاديث الباب يخضع في كل مرة للغرض الذي من أجله ساق تلك الأحاديث.
ثالثاً: منهجه في تكرار الحديث:
لم يتعمد الإمام ابن خزيمة تكرير الأحاديث في صحيحه؛ ولذا لم يتكرر عنده إلا القليل من الأحاديث، في مواضع قليلة، حتى لا يَعرف الناظر فيه ذلك إلا بعد التأمل والبحث، ولكنه في تكراره - القليل - قد يُراعي المغايرة بفائدة جديدة في متن الحديث أو إسناده.
رابعاً: منهجه في الأحاديث المعلقة:
الحديث المعلق هو الذي سقط من مبتدأ سنده - من جهة المصنف - راوٍ أو أكثر على التوالي، والأصل أن الإمام ابن خزيمة لم يُخرج في صحيحه إلا ما اتصل سنده، ولكنه أورد بعض الأسانيد غير المتصلة (المعلقة)، غير أنها لا تزيد على ثلاثة عشر حديثاً، كلها صحيحة عند كثير من المحدثين إلا حديثا واحدا.
خامساً: منهجه في بيان طرق الحديث واختصارها:
الأصل في إخراج الأحاديث بأسانيدها أن يُفرَد كل حديث بالرواية سنداً ومتناً، ولكن خشية التطويل دفعت الأئمة - ومنهم الإمام ابن خزيمة - إلى اتباع طرق للاختصار، منها:
1- جمع الرواة بالعطف: جمع بين الرواة بالعطف بحرف الواو، طلبا للاختصار، وعدم تكرار الجزء المشترك من الإسناد بأكمله، ومن ذلك قوله في صحيحه: "أخبرنا أبو طاهر، قال: حدثنا أبو بكر، قال حدثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي وعبد الجبار بن العلاء، قالا: حدثنا سفيان.." الحديث.
2- جمع الأسانيد بالتحويل: جمع بين الأسانيد باستخدام حرف يدل على التحويل -أي الانتقال من سند إلى آخر- وهو حرف "ح"، والهدف من التحويل اختصار الأسانيد التي تلتقي عند راو معين، بعدم تكرار القدر المشترك بينها، وتوضع حاء التحويل "ح" عند الراوي الذي تلتقي عنده الأسانيد، ويكون عليه مدار مخرج الحديث، وقد توضع حاء التحويل بعد ذكر جزء من المتن، عند الموضع الذي يبدأ فيه اختلاف الروايتين.
3- ذكر بعض الطرق أو جزء من الحديث والإشارة إلى الباقي للاختصار: إذا كان للحديث أكثر من إسناد أو متن، فإنه قد يذكر بعضها ويشير إلى باقيها، دون أن يذكرها بطولها، قال الإمام ابن خزيمة في صحيحه بعد أن ذكر أحد الأحاديث: "أخبرنا أبو طاهر، قال: حدثنا أبو بكر، قال: حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا سلْم بن إبراهيم -يعني الوراق- قال: حدثنا عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن عياض بن هلال بهذا الإسناد نحوه".
سادساً: منهجه في التعليق على الأحاديث:
لم يُكثر الإمام ابن خزيمة من ذكر حكمه على الحديث، لكونه اشترط الصحة في الأحاديث التي يوردها، وكذا لم يُكثر من التعرض لذكر العلل التي تقدح في صحة الحديث، لأنه انتقى أغلب الأحاديث التي أوردها، وكان يتعرض أحيانا لذكر ترجيحه لما فيه خلاف بين الرفع والوقف أو الإرسال والوصل.
سابعاً: منهجه في صنوف متفرقة:
1- أقسام الحديث (الحسن كالصحيح): كان الإمام ابن خزيمة لا يرى التفريق بين الحديث الصحيح والحديث الحسن، فالحسن عنده قسم من الصحيح وهو داخل فيه؛ ولذلك فإن ما أورده في صحيحه هو صحيح أو حسن، وقد يورد الضعيف مع بيان علته.
2- تقديم المتن على السند: كان الإمام ابن خزيمة يقدِّم المتن على السند ثم يسوق الإسناد، وهذه إشارة منه إلى ضعف الحديث أو أنه ليس على شرطه، قال الحافظ ابن حجر: "تقديم الحديث على السند يقع لابن خزيمة إذا كان في السند من فيه مقال فيبتدئ به، ثم بعد الفراغ يذكر السند، وقد صرح ابن خزيمة بأن من رواه على غير ذلك الوجه لا يكون في حل منه".
3- دفع الإيهام الذي قد يتبادر للذهن: كان الإمام ابن خزيمة حينما يخرج حديثاً قد يتوهم البعض أنه مقطوع - أو غير ذلك من العلل - فإنه يعقِّب ببيان ذلك، ومن ذلك أنه أخرج حديثاً عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، ثم قال: "شكَّ في ابن عباس ثم أثبته بعد".
منهج الإمام ابن خزيمة المتعلق بالمتون
أولا: منهجه في تقسيم الأبواب وتراجمها:
كان الغالب على تراجم أبواب صحيح ابن خزيمة التراجم الظاهرة، وهي التي يدل عنوان الباب فيها على مضمونه من الأحاديث دلالة واضحة، لا يحتاج القارئ فيها إلى إعمال فكره لمعرفة وجه الاستدلال، ولكنه كان يُضمِّن تراجمه استنباطات فقهية أو فوائد حديثية، ومن أهم سمات تراجمه ما يلي:
1- ذكر الدليل ووجه الاستدلال: كان يطيل في عنوان الباب ويذكر فيه الدليل ووجه الاستدلال منه، ومن ذلك قوله: "باب ذكر الدليل على أن ما وقع عليه اسم التراب فالتيمم به جائز عند الإعواز من الماء، وإن كان التراب على بساط أو ثوب وإن لم يكن على الأرض، مع الدليل على أن خبر أبي معاوية الذي ذكرناه مختصراً "جُعلت لنا الأرض طهورا" أي عند الإعواز من الماء، إذا كان المحدث غير مريض مرضا يخاف - إن ماسَّ الماء - التلف أو المرض المخوف أو الألم الشديد، لا أنه جعل الأرض طهورا، وإن كان المحدث صحيحا واجدا للماء، أو مريضا لا يضر إمساس البدن الماء"، ثم ساق الحديث.
2- إشارته لبعض القواعد الأصولية: كان يتعرض لذكر القواعد الأصولية إذا وجد فرصة لذلك، ومن ذلك قوله: "باب ذكر فرض الصلوات الخمس من عدد الركعة بلفظ خبرٍ مجملٍ غير مفسَّرٍ، بلفظٍ عامٍّ مراده خاصٌّ "، ثم ساق عدة أحاديث.
3- اقتصار الترجمة على المعنى الذي تضمَّنه الحديث: رغم أنه كان يطيل الترجمة في كثير من المواضع، إلا أنه كان يختصر أحيانا، ومن أمثلة ذلك قوله : "باب إباحة الجهر ببعض الآي في صلاة الظهر والعصر"، ثم ساق الحديث الدالّ على ذلك.
ثانيا: منهجه في ذكر الفوائد واللطائف:
كان الإمام ابن خزيمة يعقِّب أحيانا بذكر الفوائد، وكذا يستنبط الأحكام الفقهية ؛ ولذا حفِل كتابه باستنباطات فقهية دقيقة، مبنية على أدلتها مستندة إلى نصوصها ، يضاف إلى ذلك تعليقاته الهامة على كثير من الأحاديث ، يفسر فيها لفظا غريبا ، أو يوضح معنى مستغلقاً ، أو يرفع إشكالا، ويزيل إبهاما، أو يجمع بين روايتين الظاهر أن بينهما تضادا، أو يذكر اسم رجل بتمامه إن ذكر في الإسناد كنيته أو العكس .
* المصدر: موقع الشبكة الإسلامية.
طباعة
ارسال