هناك من لا يعترفون بأن الرسول معصوم عن الخطأ ، ويقدمون
الأدلة على ذلك بسورة [ عبس وتولى ] وكذلك عندما جامل الرسول صلى الله عليه وسلم ،
زوجاته ، ونزلت الآية الكريمة التي تنهاه عن ذلك (انتهى).
الرد
على الشبهة:
إن
عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكذلك عصمة كل الرسل - عليهم السلام - يجب أن
تفهم في نطاق مكانة الرسول.. ومهمة الرسالة.. فالرسول: بشر يُوحَى إليه.. أي أنه -
مع بشريته - له خصوصية الاتصال بالسماء ، بواسطة الوحي.. ولذلك فإن هذه المهمة
تقتضى صفات يصنعها الله على عينه فيمن يصطفيه ، كي تكون هناك مناسبة بين هذه
الصفات وبين هذه المكانة والمهام الخاصة الموكولة إلى صاحبها.
والرسول مكلف بتبليغ الرسالة ، والدعوة إليها ، والجهاد فى سبيل إقامتها
وتطبيقها.. وله على الناس طاعة هي جزء من طاعة الله - سبحانه وتعالى - (أطيعوا
الله وأطيعوا الرسول ) [النساء: 59]. (قل أطيعوا الله والرسول ) [آل عمران: 32].
(من يطع الرسول فقد أطاع الله ) [النساء: 80]. (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني
يحببكم الله ) [آل عمران: 31]. ولذلك كانت عصمة الرسل فيما يبلغونه عن الله ضرورة
من ضرورات صدقهم والثقة في هذا البلاغ الإلهي الذي اختيروا ليقوموا به بين الناس..
وبداهة العقل - فضلاً عن النقل - تحكم بأن مُرْسِل الرسالة إذا لم يتخير الرسول
الذي يضفى الصدق على رسالته ، كان عابثًا.. وهو ما يستحيل على الله ، الذي يصطفى
من الناس رسلاً تؤهلهم العصمة لإضفاء الثقة والصدق على البلاغ الإلهي.. والحُجة
على الناس بصدق هذا الذي يبلغون.
وفى التعبير عن إجماع الأمة على ضرورة العصمة للرسول فيما يبلغ عن الله ، يقول
الإمام محمد عبده عن عصمة الرسل - كل الرسل -: ".. ومن لوازم ذلك بالضرورة:
وجوب الاعتقاد بعلو فطرتهم ، وصحة عقولهم ، وصدقهم في أقوالهم ، وأمانتهم في تبليغ
ما عهد إليهم أن يبلغوه ، وعصمتهم من كل ما يشوه السيرة البشرية ، وسلامة أبدانهم
مما تنبو عنه الأبصار وتنفر منه الأذواق السليمة ، وأنهم منزهون عما يضاد شيئًا من
هذه الصفات ، وأن أرواحهم ممدودة من الجلال الإلهي بما لا يمكن معه لنفس إنسانية
أن تسطو عليها سطوة روحانية.. إن من حكمة الصانع الحكيم - الذي أقام الإنسان على
قاعدة الإرشاد والتعليم - أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يُعدُّ لها ،
بمحض فضله ، بعض مَنْ يصطفيه من خلقه ، وهو أعلم حيث يجعل رسالته ، يميزهم بالفطرة
السليمة ، ويبلغ بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنوار علمه ،
والأمانة على مكنون سره ، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم لفاضت له نفسه ، أو
ذهبت بعقله جلالته وعظمته ، فيشرفون على الغيب بإذنه ، ويعلمون ما سيكون من شأن
الناس فيه ، ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العالمين ، نهاية الشاهد
وبداية الغائب ، فهم في الدنيا كأنهم ليسو من أهلها ، هم وفد الآخرة فى لباس من
ليس من سكانها.. أما فيما عدا ذلك - [ أي الاتصال بالسماء والتبليغ عنها ] - فهم
بشر يعتريهم ما يعترى سائر أفراده ، يأكلون ويشربون وينامون ويسهون وينسون فيما لا
علاقة له بتبليغ الأحكام ، ويمرضون وتمتد إليهم أيدي الظلمة ، وينالهم الاضطهاد ،
وقد يقتلون " (1).
فالعصمة - كالمعجزة - ضرورة من ضرورات صدق الرسالة ، ومن مقتضيات حكمة من أرسل
الرسل - عليهم السلام -..
وإذا كان الرسول - كبشر - يجوز على جسده ما يجوز على أجساد البشر.. وإذا كان
الرسول كمجتهد قد كان يمارس الاجتهاد والشورى وإعمال العقل والفكر والاختيار بين
البدائل في مناطق وميادين الاجتهاد التي لم ينزل فيها وحى إلهي.. فإنه معصوم في
مناطق وميادين التبليغ عن الله - سبحانه وتعالى - لأنه لو جاز عليه الخطأ أو السهو
أو مجانبة الحق والصواب أو اختيار غير الأولى في مناطق وميادين التبليغ عن الله
لتطرق الشك إلى صلب الرسالة والوحي والبلاغ ، بل وإلى حكمة من اصطفاه وأرسله ليكون
حُجة على الناس.. كذلك كانت العصمة صفة أصيلة وشرطًا ضروريًا من شروط رسالة جميع
الرسل - عليهم السلام -.. فالرسول في هذا النطاق - نطاق التبليغ عن الله - (وما
ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى ) [النجم: 3-4]. وبلاغة ما هو بقول بشر ،
ولذلك كانت طاعته فيه طاعة لله ، وبغير العصمة لا يتأتى له هذا المقام.
أما اجتهادات الرسول صلى الله عليه وسلم فيما لا وحى فيه ، والتي هي ثمرة لإعماله
لعقله وقدراته وملكاته البشرية ، فلقد كانت تصادف الصواب والأولى ، كما كان يجوز
عليها غير ذلك.. ومن هنا رأينا كيف كان الصحابة ، رضوان الله عليهم في كثير من
المواطن وبإزاء كثير من مواقف وقرارات وآراء واجتهادات الرسول صلى الله عليه وسلم
يسألونه - قبل الإدلاء بمساهماتهم في الرأي - هذا السؤال الذي شاع في السُّنة
والسيرة:
" يا رسول الله ، أهو الوحي ؟ أم الرأي والمشورة ؟.. " فإن قال: إنه
الوحي. كان منهم السمع والطاعة له ، لأن طاعته هنا هي طاعة لله.. وهم يسلمون الوجه
لله حتى ولو خفيت الحكمة من هذا الأمر عن عقولهم ، لأن علم الله - مصدر الوحي -
مطلق وكلى ومحيط ، بينما علمهم نسبى ، قد تخفى عليه الحكمة التي لا يعلمها إلا
الله.. أما إن قال لهم الرسول - جوابًا عن سؤالهم -: إنه الرأي والمشورة.. فإنهم
يجتهدون ، ويشيرون ، ويصوبون.. لأنه صلى الله عليه وسلم هنا ليس معصومًا ، وإنما
هو واحد من المقدمين في الشورى والاجتهاد.. ووقائع نزوله عن اجتهاده إلى اجتهادات
الصحابة كثيرة ومتناثرة في كتب السنة ومصادر السيرة النبوية - في مكان القتال يوم
غزوة بدر.. وفى الموقف من أسراها.. وفى مكان القتال يوم موقعة أُحد.. وفى مصالحة
بعض الأحزاب يوم الخندق.. إلخ.. إلخ.
ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أراد الله له أن يكون القدوة والأسوة للأمة
(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله
كثيرًا ) [الأحزاب: 21].
وحتى لا يقتدي الناس باجتهاد نبوي لم يصادف الأولى ، كان نزول الوحي لتصويب
اجتهاداته التي لم تصادف الأولى ، بل وعتابه - أحيانًا - على بعض هذه الاجتهادات
والاختيارات من مثل: (عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر
فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى * وأما من جاءك
يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى ) [عبس: 1-10]. ومن مثل: (يا أيها النبي لم تحرم
ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة
أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم * وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثًا
فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من
أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير ) [التحريم: 1-3]. ومن مثل: (ما كان لنبي أن
يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز
حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) [الأنفال: 67-68].
وغيرها من مواطن التصويب الإلهي للاجتهادات النبوية فيما لم يسبق فيه وحى ، وذلك
حتى لا يتأسى الناس بهذه الاجتهادات المخالفة للأولى.
فالعصمة للرسول صلى الله عليه وسلم ، فيما يبلغ عن الله شرط لازم لتحقيق الصدق
والثقة في البلاغ الإلهي ، وبدونها لا يكون هناك فارق بين الرسول وغيره من الحكماء
والمصلحين ، ومن ثم لا يكون هناك فارق بين الوحي المعصوم والمعجز وبين الفلسفات
والإبداعات البشرية التي يجوز عليها الخطأ والصواب.. فبدون العصمة تصبح الرسالة
والوحي والبلاغ قول بشر ، بينما هي - بالعصمة - قول الله - سبحانه وتعالى - الذي
بلغه وبينه المعصوم - عليه الصلاة والسلام -.. فعصمة المُبَلِّغ هي الشرط لعصمة
البلاغ.. بل إنها - أيضًا - الشرط لنفى العبث وثبوت الحكمة لمن اصطفى الرسول وبعثه
وأوحى إليه بهذا البلاغ.
-------------------------------
(1) [ الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده ] ج2 ص 415 ، 416 ، 420، 421. دراسة
وتحقيق: د.
محمد عمارة. طبعة القاهرة سنة 1993م.
بقلم: أ.د محمود حمدي زقزوق
طباعة
ارسال