لا شك أن ثورة 25 يناير أحدثت تغيرات سياسية دراماتيكية سريعة , لم يكن يحلم بها أكثر الخبراء في الشأن المصري تفاؤلاً بمن فيهم من يطلق عليهم الخبراء في شئون الحركات والجماعات والتيارات الإسلامية .
هذه التغيرات السياسية كان لابد ومن الطبيعي أن ينتج عنها ويتبعها تغيرات اقتصادية تتلائم مع توجهات التيار السياسي ذو المرجعية الإسلامية الذي حاز ثقة ملايين الشعب المصري , ومن هنا بدأت الصحف والمجلات والبرامج الحوارية في استضافة مفكرين واقتصاديين ورجال أعمال لمناقشة موضوع تطبيق الاقتصاد الإسلامي للقضاء على مشاكل مصر الاقتصادية .
ونظراً لأن الاقتصاد الإسلامي هو مجال تخصصي فقد قرأت الكثير مما كتب واستمعت لمعظم ما قيل , وهو جهد مشكور لأصحابه وخطوة علي الطريق الصحيح , ولكن الأمر يحتاج إلي التوسع في البسط لتصحيح بعض المفاهيم عن الاقتصاد الإسلامي قبل التطبيق .
الاقتصاد العيني الحقيقي:
من المفاهيم الأساسية الفارقة التي يجب أن تكون واضحة في وجدان وعقل كل من يشتغل بالاقتصاد الإسلامي أن النشاط الاقتصادي الإسلامي يسعى إلى تحقيق المنفعة المادية للأفراد مثل الأنظمة الاقتصادية الأخرى , ولكنه لا يتخذها هدف وإنما يعتبرها وسيلة لغاية أكبر وهدف أسمى يتمثل في إعمار الأرض وتهيئتها للعيش للناس كافة كما جاء في قوله تعالى : { هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيْهَا } هود 61 .
ومصطلح العمارة والتعمير يعني النهوض في مختلف مجالات الحياة الإنسانية , وهو يفوق في مضمونه التنمية الاقتصادية بمعناها المادي المتعارف عليه , ويرتفع عنها لتحقيق التنمية الروحية والأخلاقية والاجتماعية وفق بعد تعبدي قائم على أن الدنيا للمسلم مزرعة للآخرة .
فالاقتصاد الإسلامي اقتصاد عيني مبني على استغلال الموارد المادية الطبيعية التي وهبها الله للبشر لينعموا بحياتهم على الأرض وتعرف في اللفظ الإسلامي " بالأموال " , ويراد بها كل ما يمكن أن يملكه الإنسان وينتفع به على وجه معتاد , وجاء ذكر الموارد الطبيعية في القرآن مجملاً ومفصلاً في أكثر من مائة موضع على أنواعها المتعددة , الزراعية بعناصرها المختلفة من ماء وتربة ورياح وحرارة , والمعدنية بمختلف أنواعها من حديد ونحاس وغيرها , والمائية بنوعيها البحري والنهري , والموارد الحيوانية بأنواعها واستخدامات كل منها , والقانون الإلهي الذي يحكم الموارد الطبيعية هو قانون الوفرة وليس قانون الندرة كما يتصور الاقتصاديون الرأسماليون , والشريعة الإسلامية تعتبر أن الندرة مرجعها سوء استخدام الموارد المتاحة , أو سوء توزيعها بين البشر .
كما أن الموارد الطبيعية التي وهبها الله للبشر رغم وفرتها إلا أنها في جملتها غير معدة للاستهلاك المباشر , ويتطلب الانتفاع بها قيام الإنسان بواجبات الاستخلاف من العمل وبذل المجهود الذي يحور تلك الموارد الطبيعية إلي سلع استهلاكية تشبع الحاجات البشرية , أو تحويلها إلى سلع رأسمالية بقصد التنمية كالعدد والآلات والمصانع التي تستخدم في العملية الإنتاجية لقوله تعالى : { وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } التوبة 105 .
الاقتصاد المالي " الأدوات أو الوسائل النقدية الوسيطة "
اقتصاديون كثيرون يستخدمون مصطلح الاقتصاد المالي ويعتبرونه اقتصاد قائم بذاته قادر على اشباع حاجات الإنسان مثل الاقتصاد العيني , وفي ذلك خلط بين مفهوم الأموال كموارد وأصول وثروات مادية حقيقية يتوقف عليها بقاء الحياة البشرية وتقدمها , وبين مفهوم النقود كأداة أو وسيلة وسيطة تساعد وتسهل التعامل والتبادل في الأصول العينية .
حقيقة الأمر أنه لا يوجد سوى الاقتصاد العيني الذي يتناول الموارد المادية " الأموال " قادر على إشباع الحاجات البشرية سواء بطريق مباشر بتقديم السلع الاستهلاكية والخدمات , أو بطريق غير مباشر بتقديم السلع الرأسمالية التي تستخدم في العملية الإنتاجية , وأن الاقتصاد المالي ما هو إلا أدوات نقدية وسيطة الغرض منها خدمة الاقتصاد العيني .
الاقتصاد الإسلامي لا يمكن اختزاله في الصيرفة الإسلامية:
لقد أصبح من سمات هذا العصر علو شأن الاقتصاد المالي " النقدي " على حساب الاقتصاد الحقيقي المنتج , للدرجة التي حلت فيها صناعة النقود محل صناعة السلع , وحلت الفائدة محل الربح , وهذه من أكبر الكوارث لأن الاقتصاد المالي وجد في الأصل لخدمة الاقتصاد الحقيقي لينتج السلع والخدمات التي يحتاجها الناس للحفاظ على حياتهم , فتحول إلى أداة لجذب الأموال من الأنشطة الاقتصادية الحقيقية المثمرة والدفع بها في أنشطة مالية طفيلية تعتمد على المجازفات التي تسبب هزات اقتصادية تدمر الاقتصاد الحقيقي , لقد أصبح الاقتصاد المالي أداة ترويع للمجتمع نتيجة لما يسببه من ضياع أموال الأفراد المدخرة لتأمين أحوالهم المعيشية .
من الواضح أن المشتغلين بالاقتصاد الإسلامي تأثروا بصورة أو بأخرى بفكرة الاقتصاد المالي , ومظاهر هذا التأثر تبدو واضحة عند تحدثهم عن الاقتصاد الإسلامي فتجدهم يكادون يختزلونه في الصيرفة الإسلامية وبعض تعاملات البورصة , ويحصرون الصيرفة الإسلامية في عقود المرابحة والتورق , وكأن الاقتصاد الإسلامي يختص ببعض أعمال البنوك وتعاملات البورصة , ولا يذكرون أن دوره الأساسي هو إقامة المشاريع الزراعية والصناعية والسكنية والصحية والخدمية , وتنمية الموارد البشرية وإيجاد فرص عمل لها لتساهم في بناء وتنمية المجتمع .
الصيرفة الإسلامية ليست كعكة مطلوب تقسيمها:
بعض الاقتصاديين المتخصصين في الصيرفة الإسلامية عندما يتحدثون عنها يستشهدون على نجاحاتها بثلاثة أمور :
أولها : تزايد عدد المؤسسات المالية الإسلامية في العالم عن 300 مؤسسة وأن بعضها يقف في مصاف كبريات البنوك العالمية .
ثانيها : نمو حجم الموجودات المدارة ( النقود والأصول المالية ) بهذه المؤسسات باستمرار ومن المتوقع أن تصل إلى 1,5 تريليون دولار بحلول عام 2013 .
ثالثها : أن هناك بنوك تجارية عالمية ومحلية مثل باركليز , وسيتي بنك , و HSBC , والبنك المتحد السويسري UBS فتحت نوافذ مستقلة عنها تعمل وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية .
لكن من المحزن والمؤسف أن يستغل هؤلاء الاقصاديون هذه الحقائق عن الصيرفة الإسلامية ويقدمونها على أنها كعكة كبيرة يمكن تقسيم عوائدها بين البنوك , ويحرصون على نموها باستمرار عن طريق ابتكار أصول مالية جديدة تساهم في نمو سوق صناعة التمويل , وبذلك أصبح نقل النقود من البنوك التقليدية إلى البنوك الإسلامية لإقراضها للعملاء بأساليب متوافقة مع الشريعة الإسلامية هدف قائم بذاته منفصل عن المشاركة في مشروعات استثمارية تنموية .
العقود الشرعية للمعاملات ليست منتجات مالية للبيع:
من الأمور التي أصبحت شائعة ولافتة للانتباه أن كثيراً من المشتغلين بالاقتصاد الإسلامي وكذلك بعض الفقهاء يستخدمون مصطلح المنتجات المالية الإسلامية كبديل لمصطلح العقود الشرعية الحاكمة للمعاملات المالية , وذلك رغبة منهم في مسايرة المصطلحات المستخدمة في الاقتصاد الغربي بهدف جعل الاقتصاديين الغربيين يتقبلون نموذج المعاملات المالية الإسلامية , وهذا من الخطأ ولا يصح لأمرين :
أولهما: أن الإسلام دين تعبدنا الله به كما جاء في قوله تعالى : " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ " الذاريات 56 .
ولأنه سبحانه وتعالى يعلم بضعف البشر وحاجة بعضهم إلى بعض في كافة تعاملات حياتهم الدنيوية ومن بينها التعاملات المالية , أنزل لهم في القرآن الكريم نصوصًا شرعية تحكم وتنظم وتضبط هذه التعاملات , وجاءت السنة النبوية المطهرة على صاحبها أشرف الصلاة وأتم التسليم مبينة وشارحة لهذه النصوص ومقرة للعقود الموافقة لها ، وأمر المولى عز وجل بالالتزام بتنفيذ تلك العقود في قوله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ " المائدة 1 .
الدين الإسلامي شرع ومنهاج يحكم وينظـم التعاملات بين البشر بما في ذلك التعاملات الماليـة وهذا الشرع ليس منتجات مالية تباع وتشترى لقوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } المائدة 48 .
ثانيهما : أن إطلاق مسمى المنتجات المالية الإسلامية على العقود الشرعية الحاكمة للمعاملات المالية يجعل الناس يتصورون أن من حقهم تعديلها أو تغييرها أو إلغائها باعتبار أنها منتجات تخضع للتطوير والتعديل والإلغاء , والعقود الشرعية لا يجوز بأي حال من الأحوال اعتبارها منتجات يمكن تعديل أركانها أو تغييرها أو التنازل عنها أو الالتفاف عليها ، وإذا حدث هذا فإنها تصبح عقود مالية فاسدة ولا تمت للمعاملات المالية الإسلامية بأي صلة .
متطلبات نجاح تطبيق الاقتصاد الإسلامي:
من أهم متطلبات نجاح تطبيق الاقتصاد الإسلامي على أرض الواقع بعد إخلاص النية , وكون مجال العمل مباحاً وليس محرماً , سلامة الوجهة والتوجه , والتطبيق الصحيح .
سلامة الوجهة والتوجه: إن إخلاص النية نحو تطبيق الاقتصاد الإسلامي غير كاف , ولابد من أن يصاحبها سلامة الوجهة نحو تغيير القوانين الاقتصادية التي تحكم المجتمع , لأنه لا يمكن تصور تطبيق الاقتصاد الإسلامي في ظل قوانين اقتصادية سائدة مبنية على الربا والقمار والاحتكار , ولا تلتزم بأي ضوابط أخلاقية في المعاملات المالية .
سلامة الوجهة يجب أن يتبعها سلامة التوجه بمعنى أن يكون الاقتصاد الإسلامي المراد تطبيقه مستمداً من ومعبراً عن قواعد ومبادئ وأخلاق الشريعة الإسلامية , وأن يكون شاملاً لكافة المجالات الاقتصادية ، وألا يتم اختزاله أو حصره في مجال الأعمال المصرفية , ولا يصح أن يتصور البعض بأن أسلمة بعض معاملات البنوك تكفي لجعل الاقتصاد إسلامي .
التطبيق الصحيح : لا يمكن للاقتصاد الإسلامي أن يحقق النجاح المرجو منه بدون التطبيق الصحيح للعقود الشرعية للمعاملات ، فلا يكفي أن تكون مسميات العقود متطابقة مع المسميات الشرعية من الناحية الشكلية , ويكون التنفيذ مخالف كلياً أو جزئياً للقواعد والإجراءات والشروط الشرعية لتلك العقود من الناحية التطبيقية , ومن أمثلة تلك المعاملات المحرمة والتطبيقات الخاطئة المطلوب إيقافها أو تصحيحها :
التورق المنظم: وهو من المعاملات المحرمة وفق فتوى مجمع الفقه الإسلامي الدولي وفتوى المجمع الفقهي الإسلامي , ومع هذا تتعامل بها بعض البنوك وتقدمها في صورة عقد بيع بالتقسيط لمعادن مشتراة من السوق العالمية أو سلع غذائية كالأرز مشتراة من السوق المحلية .
المضاربة حقيقتها مشاركة بين المال والعمل في تجارة والربح على ما اتفقا عليه والخسارة على المال ، والبورصة تستخدم اللفظ وتطبقه في القمار والرهان على تقلبات الأسعار اللحظية .
الوديعة: أصلها حفظ المال لدى الغير وهي أمانة لدى المودع عنده واجبة الرد بهيئتها للمودع عند طلبها , وتطلق تسميتها في البنوك على الإيداع النقدي الذي يجمده صاحبه لدى البنك لفترة من الزمن مقابل فائدة ترتفع نسبتها كلما طالت مدة التجميد أي أنها قرض بربا .
من ضمن تصحيح المفاهيم ألا يتم استخدام أمثلة الأخطاء في التطبيق التي ذكرتها في الهجوم على الاقتصاد الإسلامي أو البنوك الإسلامية ، لأن الأخطاء أمر وارد في أي عمل ويمكن تصحيحها والوصول بها إلى التطبيق السليم , وأذكر الجميع بقول الإمام علي رضي الله عنه ليس من أراد الحق وأخطأه كمن أراد الباطل وأدركه .
إن الحكم على الاقتصاد المطبق في أي بلد بأنه إسلامي أو غير ذلك يجب أن يكون بمعيار القرب أو البعد من التطبيق الصحيح للعقود الشرعية للمعاملات المالية , لأن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني .
* بقلم: عبد الفتاح محمد صلاح ، نقلاً عن موقع الاقتصاد العادل.
طباعة
ارسال