مدخل :
ما أمر الله تعالى بشيء إلا كان للعباد فيه مصلحة عاجلة أو آجلة ، وما نهى عن شيء إلا كان فيه مفسدة عاجلة أو آجلة ، " والمصالح كلها خيور نافعات حسنات ، والمفاسد بأسرها شرور مضرات سيئات ، وقد غلب في القرآن استعمال الحسنات في المصالح ، والسيئات في المفاسد ".
وقد ثبت بالأدلة القطعية المتضافرة - كما مر معنا - أن السرف مما نهى الله عنه ورسوله ، ومما تأنف منه نفوس العقلاء .
ولذا لا بد أن تكون له سلبيات وأضرار ومفاسد تعود على الفرد وعلى الجماعة ، وتعود على الدين والدنيا .
ويمكن تصنيف هذه الآثار كالآتي :
1 - الآثار الدينية .
2 - الآثار النفسية .
3 - الآثار الاجتماعية .
4 - الآثار الاقتصادية .
5 - الآثار البدنية .
وهذه وقفات حولها في المطالب الآتية :
المطلب الأول: الآثار الدينية.
الدين من ضرورات الحياة الإنسانية ، بل أهم الضرورات ، والمحافظة عليه مما يخدشه فرض على كل مسلم .
وبضياع الدين يخسر الإنسان حياته الدنيوية والأخروية . { وَالْعَصْرِ }{ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ }{ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } .
لعمرك ما الإنسان إلا بدينه ... فلا تترك التقوى اتكالا على النسب
فما آثار السرف التي تنعكس على الدين سلبا ؟ هنا نحاول إبرازها في النقاط الآتية :
1 - أن في السرف مجاوزة لحدود الله التي حدها وفرضها ، وقد قال الحق : . . . { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }.
ووجه كون السرف تجاوزا لحدود الله ، أن الله تعالى نهى عنه في آيات كثيرة ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وحسبنا قوله سبحانه : . . . { وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } .
والمسرف مرتكب للنهي ، فيكون قد تجاوز حدود الله التي حدها وهي الاعتدال والتوسط .
2 - الإسراف والتبذير كفر بنعمة الله ، وطغيان في الأرض ، قال تعالى { إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا }.
يقول الألوسي ( ت1270 هـ ) : "وفي تخصيص هذا الوصف بالذكر من بين صفاته القبيحة إيذان بأن التبذير الذي هو عبارة عن صرف نعم الله تعالى إلى غير مصرفها من باب الكفران المقابل للشكر ".
3 - متابعة الشيطان ومؤاخاته قال سبحانه : . . . { وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا }{ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا } .
" ومعنى ذلك أن التبذير يدعو إليه الشيطان ؛ لأنه إما إنفاق في الفساد ، وإما إسراف يستنزف المال في السفاسف واللذات فيعطل الإنفاق في الخير ، وكل ذلك يرضي الشيطان ، فلا جرم أن كان المتصفون بالتبذير من جند الشيطان وأعوانه ، وهذا تحذير من التبذير ، فإن التبذير إذا فعله المرء اعتاده فأدمن عليه فصار له خلقا لا يفارقه فشأن الأخلاق الذميمة أن يسهل تعلقهما بالنفوس . . . فإذا بذر المرء لم يلبث أن يصير من المبذرين أي المعروفين بهذا الوصف ، والمبذرون إخوان الشياطين ، فليحذر المرء من عمل هو من شأن إخوان الشياطين ، وليحذر أن ينقلب من إخوان الشياطين ".
4 - تعريض المسرف نفسه للعقوبة الدنيوية أو الأخروية ، أو كليهما ، قال سبحانه : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا }.
وقد قص الله سبحانه في كتابه ما فعله قارون من جمع للمال ، وكنز له ، ومنعه حقه وزهوه به ، ثم نتيجة ذلك { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ }.
" فكما رفع نفسه على عباد الله ، أنزله الله أسفل سافلين هو وما اغتر به من داره وأثاثه ومتاعه ".
5 - الحرمان من التوفيق والهداية الإلهية ، يقول سبحانه على لسان مؤمن آل فرعون في سياق دفاعه عن موسى عليه الصلاة والسلام : . . . { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ }.
6 - المساءلة بين يدي الله تعالى ، فعن أبي برزة الأسلمي قال : قال صلى الله عليه وسلم : « لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه ، وعن علمه فيم فعل به ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه » .
ومن نوقش الحساب هلك .
يؤكد ذلك قوله سبحانه : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ }.
وقد اختلف من المسؤول هنا أهو المؤمن أم الكافر ، وأي شيء هو النعيم ؟ قال في مفاتيح الغيب : " والحق أن السؤال يعم المؤمن والكافر عن جميع النعيم ، سواء كان مما لا بد منه أو لا ، لأن كل ذلك يجب أن يكون مصروفا إلى طاعة الله لا إلى معصيته ، فيكون السؤال واقعا عن الكل ".
المطلب الثاني: الآثار النفسية.
ثمة آثار سلبية تنعكس على المسرف في نفسه وقلبه ، ومن ذلك :
1 - قسوة القلب وإعراضه عن الحق ، باتباع الشهوات والملذات ، فالقلب كلما غرق في لذة ابتعد عن الله وأمره ، " فإنها تضعف سيره إلى الله والدار الآخرة وتعوقه وتعطفه عن السير فلا تدعه يخطو إلى الله خطوة " .
والإسراف في الإنفاق من أهم أسباب غرق القلب في اللذة .
ورحم الله عبد الله بن المبارك ( ت 181 هـ ) إذ يقول :
رأيت الذنوب تميت القلوب ... وقد يورث الذل إدمانها
ولله ما أصدق سفيان الثوري ( ت 126 هـ ) إذ يقول : " إياكم والبطنة فإنها تقسي القلب ".
2 - أن الإسراف من أهم دواعي الشر والإثم ، فالنفس بدون زمام تنساق وراء الشهوات متى كانت المادة متوافرة وليس عليها حصانة .
والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
أو كما يقول الآخر :
والنفس كالطفل إن تهمله شب على ... حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
3 - والإسراف من أسباب تأصل الأثرة والأنانية في الإنسان ، بحيث يكون همه الوحيد إرضاء نفسه باتباع الشهوات ، والبذل في سبيل ذلك بدون حدود أو قيود ، أما غير نفسه فهو نسي منسي ، حتى وإن كان من ذوي رحمه .
4 - أن الإسراف وسيلة إلى الترف ، وهما وسيلة إلى الفخر والكبر والمخيلة.
يقول ابن حجر : " وقد يستلزم الإسراف الكبر وهو المخيلة " .
5 - وتناول المخدرات والمسكرات - وهي من أبشع صور الإسراف - يذهب بالعقول ويضعف التفكير ويحمل النفس هموما وكربات عظيمة .
" إذ في ذلك تردي النفس في ورطة البهيمية والتبعد من المَلَكِية في الغاية ، وتغيير خلق الله حيث أفسد عقله الذي خص الله به نوع الإنسان ، ومَنَّ به عليهم ، وإفساد المصلحة المنزلية والمدنية وإضاعة المال والتعرض لهيئات منكرة يضحك منها الصبيان ، وقد جمع الله كل هذه المعاني تصريحا أو تلويحا في هذه الآية : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ }.
6 - أن الإنسان بإسرافه وتنعمه يألف الراحة والخمول ، ويحب الإخلاد إلى الأرض والاطمئنان إلى المادة والتعلق بها .
ومن ثم فإنه لا يتحمل المصاعب أو المصائب ، ولا يثبت في مواقف الابتلاء والاختبار .
ولعل هذا مما أشارت إليه الآية الكريمة : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }، قال علي بن محمد الخازن ( ت741 هـ ) في تفسيره : ( هذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم ، لا على سكينة وطمأنينة ، ولو عبدوا الله بالشكر على السراء والصبر على الضراء لم يكونوا على حرف ).
المطلب الثالث: الآثار الاجتماعية.
أشرنا من قبل إلى أن الإسراف منه ما هو تصرفات فردية ، ومنه ما هو تصرفات جماعية ، ولكل منهما آثاره السلبية على المجتمع ؛ لأنه من الآثام والجرائم التي تتعدى إلى المجتمع مهما كانت فردية .
فمن هذه الآثار :
1 - كسر قلوب الفقراء والمساكين والبؤساء الذين لا يكادون يحصلون على ما يسد حاجاتهم إلا بمشقة .
فإنهم عندما يرون هذه الأموال المبذرة المصروفة في غير وجوهها المشروعة ، تنقبض نفوسهم ، وتضيق صدورهم ، وتنكسر قلوبهم .
وهذا خلاف مقاصد الشارع الحكيم ، الذي يأمر بمواساتهم وجبر قلوبهم ، قال عز وجل { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ }{ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ }.
وفي الحديث : « خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه ، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه ».
وفي الحديث الآخر : « من قضى لأحد من أمتي حاجة يريد أن يسره بها فقد سرني ، ومن سرني فقد سر الله ومن سر الله أدخله الله الجنة ».
أجل . . فالإسراف وإدخال السرور على المسلم قلما يجتمعان .
2 - حرمان المستحقين من هذا المال الفائض الذي يبذر ويهدر في غير ما حاجة أو مصلحة .
والمستحقون للمواساة والمعونات موجودون في كل زمان ومكان ، وإن تفاوتت نسبتهم ، ومقدار حاجاتهم من مجتمع إلى آخر .
فالله تعالى قد فاضل بين الناس فأغنى وأفقر { وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ } .
يعيش الفتى بالفقر يوما وبالغنى ... وكل كأن لم يلقه حين يذهب
ويأتي حرمان المستحقين من فئتين :
إحداهما : أهل التبذير والإسراف ، المضيعون لأموالهم .
الثانية : أهل الشح والبخل .
وهذان طرفان ، وخير الأمور ما كان بينهما .
3 - أن الإسراف فيه إذكاء للبغضاء والشحناء بين طبقات المجتمع ( الأغنياء والفقراء ) .
فالفقير إذا رأى غنيا ذا أنانية ، يبدد ماله في طرق غير مشروعة كبناء القصور الشاهقة والمزخرفة ، وتجديد أثاث البيت كل عام ، وتبديل سيارته الفارهة بين عام وآخر ، أو صرفه في المحرمات ، أو اللعب به في نوادي القمار والميسر ، أو التبرع لجهات مشبوهة ، هذا في الوقت الذي يَحرم منه أهله المستحقين . . . .
هذا الفقير وهو يعايش هذه المشاهد ونظائرها ينزرع في قلبه بغض تلك الطبقة ويحقد عليها ويحسدها على هذه النعمة .
وربما جاء من يستغل هذه الممارسات والمواقف ليؤصل الطبقية الاجتماعية ، ويولد الفرقة بين فئات المجتمع ، كما فعله ويفعله دعاة الاشتراكية في العصر الحديث .
وكم من ثورة قام بها أراذل البشر وأوباشهم باسم الفقراء أو العمال فأكلت الأخضر واليابس ، وأحلت الخوف محل الأمن ، والفقر محل الغنى .
فيا ليت قومي يعلمون !! .
4 - أن الإسراف والبذخ طريقان إلى الترف .
والترف يؤدي لا محالة إلى زوال الأمة . كما قال الحق : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا }.
وقال : { وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ }{ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ }{ لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } .
وذلك أن " الترف - كما يقول ابن خلدون - مفسد للخلق بما يحصل في النفس من ألوان الشر والسفسفة وعوائدها . . . . فتذهب منهم خلال الخير التي كانت علامة على الملك ودليلا عليه ، ويتصفون بما يناقضها من خلال الشر ، فيكون علامة على الإدبار والانقراض بما جعل الله من ذلك في خليقته ، وتأخذ الدولة مبادئ العطب وتتضعضع أحوالها وتنزل بها أمراض مزمنة من الهرم إلى أن يقضى عليها ".
حقا إن الترف - كما تقول مجلة لواء الإسلام " يؤدي إلى انحلال النفوس وتحكم الشهوات ، وسيطرة الأنانية ، وهذا كله فساد يؤدي إلى هلاك الأمة " .
ولقد يكون الفرد - بإسرافه وإفراطه - سببا لفساد أمة . ولذلك يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " لا يذهب أمر هذه الأمة إلا على رجل واسع السُّرْم ، ضخم البلعوم ".
قال ابن الأثير ( ت 606 هـ ) : ( السُّرْم : الدبر ، والبلعوم : الحلق ، يريد رجلا عظيما شديدا . . . ويجوز أن يريد به أنه كثير التبذير والإسراف في الأموال والدماء فوصفه بسعة المدخل والمخرج ".
المطلب الرابع: الآثار الاقتصادية.
ما دام الحديث عن الإسراف في الأموال والنفقات ، فإنه سيكون له آثار سلبية على الجانب الاقتصادي لا محالة .
إذ الاقتصاد ينتظم العلاقات المادية الداخلية والخارجية للأمم والدول ، كما يدخل فيه التنظيم المالي للأسرة ، وفقا لما مر معنا في التعريف بالمصطلحات .
ولعل من أهم الآثار :
1 - إهدار الأموال وإضاعتها فيما لا يحقق مصلحة للفرد أو الجماعة ، بل ربما ترتب عليه مفاسد .
ومعروف أن المال قوام الحياة ، قال سبحانه : { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا } .
وهو أمانة بيد الإنسان ومستخلف فيه يجب عليه أن يقوم بها على الوجه الصحيح ، وإلا كان أحد الخائنين . قال سبحانه : { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ }.
قال أبو السعود ( ت951 هـ ) : " أي جعلكم خلفاء في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة ، عبر عما بأيديهم من الأموال والأرزاق بذلك تحقيقا للحق وترغيبا لهم في الإنفاق ، فإن من علم أنها لله عز وجل وإنما هو بمنزلة الوكيل يصرفها إلى ما عينه الله تعالى من المصارف هان عليه الإنفاق ".
2 - أن تبذير الأموال وإضاعتها خسارة فادحة على الأمة المسلمة ، فإنها ثروة عزيزة تقوي جانب الأمة وتشيد حضارتها " فالمقصد الشرعي أن تكون أموال الأمة عدة لها وقوة لابتناء أساس مجدها والحفاظ على مكانتها حتى تكون مرهوبة الجانب مرموقة بعين الاعتبار ، غير محتاجة إلى من قد يستغل حاجتها فيبتز منافعها ويدخلها تحت نير سلطانه ".
3 - وينتج عن التبذير اهتزاز اقتصاد الدولة المسلمة وتدني مستواه ، وربما أصيبت ميزانيتها بعجز كبير ، وهبطت عملتها إلى مستوى الحضيض ، الأمر الذي يؤدي إلى التضخم ، ومن ثم ترتفع الأسعار ويعم الغلاء ، وينخفض سعر العملة في الخارج ، وتنزح رؤوس الأموال خارج البلاد.
ويذكر أهل الاختصاص أن من أهم أسباب التضخم : اختلال التوازن بين الاستهلاك والاستثمار ، فإذا كان الاستهلاك أكبر من الاستثمار فإن الطلب يرتفع ويؤدي إلى التضخم.
وقصارى القول أن اقتصاد الدولة المسلمة لا يستقر إلا إذا تحققت فيه العدالة والاقتصاد ، وكفت عنه أيدي العابثين بالأموال ، المبذرين لها .
4 - أن الإسراف سبب لنزع البركة في المال .
فإن تبذيره تضييع له ، وهيهات البركة مع الضياع ، والفقر هو المحصلة النهائية .
ولو أن الفقر كان موجودا من قبل لهان الأمر .
والفقر أحمد من مال تبذره ... إن افتقارك مأمون به السرف
المطلب الخامس: الآثار البدنية ( الصحية ).
تعود كثير من آثار الإسراف إلى الإنسان في بدنه ، وبالأخص فيما يتعلق بالأغذية والأدوية .
فإنه متى أسرف في استعمالها أصيب بعلل كثيرة .
ولعل من المفيد - قبل الشروع في ذكر الآثار - أن نشير إلى أسباب الإسراف هذا ودواعيه .
يذكر بعض أهل الاختصاص هنا أن الأسباب تعود إلى شيء واحد هو : الشره ، وهو شدة الحرص على الطعام والتعلق به .
وقد يكون سبب ذلك عضويا وقد يكون نفسياً.
فالنفس وما تعتاده .
والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
وكما يقول الشاعر الآخر :
فالنفس إن أعطيتها هواها ... فاغرة نحو هواها فاها
ويقول الآخر :
إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
ولعل من أهم أسباب الشره :
1 - بعض الحالات المرضية الجسمية ، كالإصابة بالديدان المعوية ، والداء السكري والحمل والسل الرئوي .
وبالنسبة لكثرة العطش فإن من أسبابه :
الإسهال المزمن ، والتعرق الشديد ، وزيادة ملح الطعام .
2 - اضطراب حياة الفرد الانفعالية ، فكما يكون الشره ظاهرة للحرمان ، كذلك يمكن أن يكون ظاهرة للتدليل .
3 - الهرب من الواقع الأليم - الذي قد يصيب الإنسان أحيانا - فيحاول التفريج عن نفسه بالأكل والشرب بدون وعي بالعواقب .
4 - حب الملذات والشهوات والتعلق بها .
5 - تقليد الآخرين ومحاكاتهم .
فالمرء من جليسه ، فمن جالس أهل الشره والنهم تابعهم ولو مجاملة .
أما الآثار البدنية فمن أهمها :
1 - إجهاد الجهاز الهضمي - وعلى الأخص المعدة - مما يترتب عليه ظهور القرحات في أحد أعضاء الجهاز ، وعسر الهضم ، واحتقان الكبد ، وتوسع المعدة ، ومصاعب كثيرة لا حصر لها .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : « ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن ، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنَفَسه ».
2 - الإصابة بأمراض الدُّوار ، وأمراض القلب والأوعية ومرض السكر .
3 - الإسراف يسبب البدانة أو البطنة ، ذات المضاعفات الخطيرة : كالسكر وارتفاع الضغط ، وأمراض الشرايين وتشكل الحصى في الكلية والمرارة ، والتهاب المفاصل التي تنوء بحمل الجسم ، وأرطال الدهون المتكدسة ، كما تزيد العبء على القلب والدورة الدموية.
ورحم الله عمر بن الخطاب إذ يقول : " إياكم والبطنة في الطعام والشراب ، فإنها مفسدة للجسم ، مورثة للسقم ، مكسلة عن الصلاة ، وعليكم بالقصد فيهما فإنه أصلح للجسد وأبعد من السرف ، وأن الله ليبغض الحبر السمين ".
كما يقول الشاعر :
أقلل طعامك ما استطعت فإنه ... نفع الجسوم وصحة الأبدان
لا تحش بطنك بالطعام تسمنا ... فجسوم أهل العلم غير سمان
" ومن المفيد أن نتذكر أن ما يزيد عن حاجة الجسم من ذات الوجبة الغذائية يتحمله الجسم ".
" فمقتضى العقل . . . أن يكون التناول للمطعم والمشرب مقدار الحاجة والمصلحة ليقع الالتذاذ بالعافية ".
4 - وللإسراف في الأكل والشرب مضار أخرى ، ولا سيما في شهر رمضان ، فإنه ينتج عنه بطء في الحركة ، والإحساس بالخمول والكسل ، والإصابة بالإرهاق نتيجة إرهاق الكبد وبقية أعضاء الجهاز الهضمي .
5 - وحيث إن الإسراف سلم إلى الترف ، فإن هذا الثاني يؤثر في صحة صاحبه وصحة أولاده ، حتى ليجد المرء أمراضا جسدية مستعصية أحيانا ، يقال لها : أمراض الأغنياء .
* المصدر: مشكلة السرف في المجتمع المسلم: عبد الله بن إبراهيم الطريقي.
طباعة
ارسال