مقدمة:
تعتبر السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم، ومع ذلك تعتبر هي المصدر الأول لشرح وتفسير واستنباط الأحكام والتشريعات من القرآن الكريم في كافة المجالات، فالسنة مبينة مفسرة شارحة للقرآن، كما أنها في بعض الأحيان مفصلة متممة لبعض الأحكام في القرآن الكريم.
ونظرا للأهمية الكبرى للاقتصاد في عصرنا الحاضر، ولخطورة المشكلات الاقتصادية المستعصية التي تعاني منها مختلف دول العالم، فقد كان لا بد من الرجوع إلى هديه صلى الله عليه وسلم في الجانب الاقتصادي، للتعرف على أهم المعالم والمبادئ التي استطاع من خلالها صلى الله عليه وسلم حل أعقد المشكلات التي كانت في عصره، ففي فترة قياسية وجيزة في عمر التاريخ استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بناء جيل قرآني فريد، لديه كافة الإمكانات للبناء والنهضة والتقدم، كما استطاع تكوين دولة مؤسسات شورية، ذات أنظمة قرآنية مستقرة، وبناء نظام اقتصادي واضح المعالم يقوم على أساس العدل والإحسان ورفض الظلم والبغي والعدوان.
كيف فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؟ وهل كانت له منهجية محددة في تحقيق أهدافه؟ كيف كان سلوكه الاقتصادي صلى الله عليه وسلم كفرد وكراع للمسلمين؟ ما هي أهم الإصلاحات الاقتصادية التي قام بها صلى الله عليه وسلم؟
حول هذه الأسئلة والمحاور يدور هذا البحث، ويحاول أن يجد إجابات مباشرة وغير مباشرة لهذه الأسئلة، وذلك في المبحثين الآتيين :
المبحث الأول: منهجية العمل بالسنة في المجال الاقتصادي
المبحث الثاني: السلوك الاقتصادي للنبي صلى الله عليه وسلم:
إن النجاح الباهر الذي حققه النبي صلى الله عليه وسلم خلال ثلاث وعشرين سنة في كافة المجالات، لم يكن نتيجة عمل عشوائي أو اتكالي، وإنما كان نتيجة تخطيط مدروس ومنهجية واضحة، أحاطها الوحي بالعناية والرعاية والحماية، واستخدم النبي صلى الله عليه وسلم كافة طاقاته وإمكاناته البشرية لتحقيق هذا النجاح في كافة المجالات.
وقد كان ذلك من خلال سلوكه الاقتصادي الإيثاري وتطبيقاته للتعاليم الربانية التي كانت تتنزل عليه، فهل يمكن لأحاديثه وتطبيقاته وسيرته صلى الله عليه وسلم أن تحقق ما حققه في العصر الأول؟ وكيف يمكن العمل بالسنة في هذا العصر الذي نعيش فيه؟ وقبل ذلك ما هي السنة؟ وما هي أهم مصادرها؟ ما الفرق بين السنة والعادة؟ وما الفرق بين الأحكام الثابتة والمتغيرة المستنبطة من السنة؟ هذه هي أبرز الأسئلة التي يتناولها هذا المبحث، وسوف يكون ذلك في المطالب التالية:
المطلب الأول: السنة ومصادرها.
المطلب الثاني: علاقة السنة بالقرآن.
المطلب الثالث: الثبات والتغير في الأحكام المبنية على السنة.
المطلب الرابع: المنهجية المقترحة لتفعيل تطبيق السنة في المجال الاقتصادي.
المطلب الخامس: السنة والأعمال الدنيوية.
المطلب الأول: السنة ومصادرها:
السنة في اللغة:الطريقة المعتادة التي يتكرر العمل بمقتضاها، جاء في مختار الصحاح السنن الطريقة والسنة السيرة. قال تعالى"سنة الله في الذين خلو من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا"(الأحزاب، 62).
السنة في الاصطلاح: ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير.
أما القول فهو حديثه صلى الله عليه وسلم مثل قوله "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" وأما الفعل فأفعاله صلى الله عليه وسلم التي نقلت إلينا عن طريق الصحابة مثل أدائه الصلوات والحج وغيرها من الأفعال.. وأما التقرير فإقراره صلى الله عليه وسلم كثيرا من عادات وسلوكيات العرب الحميدة قبل الإسلام، وسكوته صلى الله عليه وسلم عن إنكار أي قول أو فعل.
مصادر السنة:
تناقلت الأجيال سنة النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الحفظ، وفي القرن الثاني الهجري قامت حركة علمية هائلة لتدوين سنة النبي صلى الله عليه وسلم.. وتم تدوين السنة في كتب اقتصر بعضها على الصحيح كالبخاري 256هـ ومسلم 361هـ، وبعضها غلب عليه الصحيح كالسنن الأربعة لأبي داود 275هـ والترمذي 279هـ وابن ماجة 273هـ والنسائي 330 ومسند أحمد وموطأ مالك..
وبعضها اختلط فيه الصحيح بالضعيف وتولى العلماء بيان ما فيها من صحيح أو ضعيف كمعاجم الطبراني الصغير والكبير والأوسط، ولا يزال العلماء حتى يومنا هذا يعملون في بيان صحيح الأحاديث من ضعيفها.
ولم يقتصر العلماء على تصنيف كتب السنة وإنما صنفوا في شرح كتب السنة مثل شروح البخاري وأشهرها فتح الباري، وشرح النووي على صحيح مسلم، كما وجدت مصنفات كثيرة في أحاديث الأحكام مثل عمدة الأحكام وبلوغ المرام وسبل السلام ونيل الأوطار.. الخ.
كما ألف بعض العلماء كتبا في الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وفي الترغيب والترهيب وفي علوم الحديث وقواعد التحديث.
المطلب الثاني: علاقة السنة بالقرآن.
لا خلاف في أن السنة مصدر للتشريع، ولكن مرتبتها مرتبة تالية للقرآن بمعنى أن الاحتجاج بالقرآن مقدم على الاحتجاج بالسنة، وأن المجتهد يبحث عن الحكم في القرآن أولا ثم في السنة، والدليل على ذلك ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن"كيف تقضي إذا عرض لك قضاء قال أقضي بكتاب الله قال فإن لم تجد في كتاب الله قال فبسنة رسول الله، قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله..
وقد دل على حجية العمل بالسنة أدلة كثيرة منها:
التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى في قوله تعالى"وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى"(النجم، 3-4).
الأمر بطاعة الرسول، وجعل طاعته طاعة لله، قال تعالى "قل أطيعوا الله والرسول"(آل عمران، 32)، وفي آية أخرى"من يطع الرسول فقد أطاع الله "(النساء، 80).
الأمر باتباع ما يأتينا به الرسول"وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"(الحشر، 7).
وجوب تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يحصل من خلاف"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما"(النساء، 65).
ومن جهة أخرى فإن نصوص القرآن قطعية الثبوت في حين أن نصوص السنة ظنية الثبوت في الجملة، ولذلك تأتي في المقام الثاني بعد القرآن كما سبق، وقد اختلف العلماء حول أقسام السنة من حيث الثبوت والحجية والصحة إلى ثلاثة أقسام: المتواتر، والمشهور، والآحاد، على الترتيب، واختلفوا في الحديث الصحيح هل يوجب العلم القطعي اليقيني أو الظني؟ ثم فصلوا في الإجابة بأن الحديث المتواتر لفظا أو معنى هو قطعي الثبوت بلا خلاف أما غيره من الصحيح فذهب بعضهم إلى أنه ظني الثبوت، وذهب آخرون إلى أنه يفيد العلم اليقيني وهو مذهب الظاهرية.. واختار ابن الصلاح وعدد كبير من العلماء أن ما ورد في الصحيحين مقطوع بصحته، والعلم اليقيني النظري واقع به، باستثناء أحاديث قليلة نبه إليها العلماء.
ومع ذلك فلا يزال علماء الحديث حتى وقتنا الحاضر يعملون في تصحيح الأحاديث سندا ومتنا، ويأخذون بعلمي الرواية والدراية وما يتفرع عنهما من علوم في طلب الإسناد وسماع الحديث وأخذه وتبليغه وروايته ونقد سنده ومتنه وضبط رواته، وإن كانت العناية منصبة بشكل كبير إلى عمليات نقد المتن ومدى موافقته لما في القرآن والمعقول، فمن شروط صحة الحديث عدم مخالفته لما جاء في القرآن الكريم، ولذلك فقد ردّت عائشة رضي الله عنها حديث تعذيب الميت ببكاء أهله بقوله تعالى"ألا تزر وازرة وزر أخرى"(النجم، 38) وردّت حديث سماع موتى بدر من المشركين لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى"وما أنت بمسمع من في القبور"(فاطر، 22).
المطلب الثالث:الثبات والتغير في الأحكام الشرعية الاقتصادية المبنية على السنة:
إن قضية الثبات والتغير في الأحكام الشرعية من القضايا الدقيقة والتي تحتاج إلى نظر فقهي عميق وتمحيص دقيق، ولا شك أن هذه المسألة ترتبط ارتباط وثيقا بمسألة القطعي والظني، والعام والخاص، وكذلك بتغير الأعراف والظروف والأزمان.
وقد حاول العلماء وضع ضوابط محددة لهذه المسألة من أبرزها:
ضرورة التحقق من قطعية ورود النص، ومناسبته، ومعرفة العام والخاص والمطلق والمقيد.. الخ: فالنص القطعي الثبوت هو النص القرآني كما تقدم، وقد يكون في مناسبة معينة إلا أن العبرة غالبا لعموم المناسبة لا لخصوص السبب.
تحديد ما يعد تشريعا وما لا يعد تشريعا من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وتنقسم السنة باعتبارها تشريعا وغير تشريع إلى قسمين:
الأول: ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره نبيا مبلغا عن الله فهذا يعتبر تشريعا للأمة بلا خلاف.
الثاني: ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال لا باعتباره نبيا مبلغا عن الله ولكن باعتباره إنسانا أو بمقتضى طبيعته البشرية كالأكل والشرب أو بمقتضى خبرته في الشئون الدنيوية، فهذا النوع لا يعتبر تشريعا للأمة، ويلحق به ما كان خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم مثل وصاله في الصيام وزواجه بأكثر من أربع.
تحديد ضوابط المصلحة ومدى اعتبارها دليلا شرعيا: وذلك بأن تكون مصلحة عامة لا خاصة، حقيقية وليست وهمية، ويقررها أهل الحل والعقد ولا يقررها أهل الهوى والمصالح الشخصية.
تحديد ما يمكن أن يتغير من الأحكام بتغير الزمان: وهذا أدق أبواب الاجتهاد وأصعبها، فقبل الحكم بتغير الحكم الشرعي لا بد من مراعاة هذه الضوابط، "فمن الأحكام الاجتهادية ما مأخذه ومستنده مصلحة زمنية، تتغير بتغير العصر وتبدل الأحوال، فينبغي أن يتغير الحكم تبعا لها.. ومن الأحكام ما يستند إلى عرف أو وضع كان قائما في زمن الأئمة المجتهدين، أو في زمن مقلديهم من المتأخرين، ثم تغير هذا العرف أو الوضع في زمننا".
وقد حاول بعض العلماء تصنيف الأحكام الثابتة والقابلة للتغير، فقال بأن الأحكام الثابتة هي الأحكام التي تمثل أصول الشريعة وأسسها ومبادئها العامة كالأحكام التي قررها النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع، والأحكام التي تتعلق بمقاصد الشريعة كتحقيق العدل ومنع الظلم وحفظ الضروريات، أما الأحكام التي تتعلق بالوسائل أو التي ثبتت باجتهاد كشكل النقود وهل هي ذهبية أو ورقية فإنها قابلة للتغير، وكذلك الأحكام التي تستند على أدلة ظنية فإنها قابلة للتغير.
ويقول الأستاذ محمد قطب"إن في الإسلام ثوابت ومتغيرات، فمن الثوابت أمور العقيدة، شهادة أن لا إله إلا الله، والعبادات بجملتها وتفصيلاتها، والحدود، وغير ذلك مما فصله الفقهاء، وهناك أمور متغيرة أذن الشارع بالاجتهاد فيها، ولكنه قيدها - في تغيرها الدائم بمحاور ثابتة أو أصول ثابتة، لا يجوز أن تحيد عنها في أثناء تغيرها ونموها، بما يلائم ما يجد من أمور في حياة الناس".
ومع ذلك فهناك اتفاق لدى الفقهاء القدامى والمعاصرين على وجود الأحكام الثابتة والمتغيرة أو القابلة للتغير، فمن الأحكام الثابتة في المجال الاقتصادي - على سبيل المثال - تحريم الربا، وجوب الزكاة، وجوب الوفاء بالعقود، تحريم أكل المال بالباطل، .. ومن الأحكام القابلة للتغير بتغير الظروف، أحكام التسعير والاحتكار والاكتناز، .. الخ.
المطلب الرابع: المنهجية المقترحة لتفعيل تطبيق السنة في المجال الاقتصادي
بناء على ما سبق، وفي ضوء ما بحثه العلماء في مسألة الثابت والمتغير والقطعي والظني، أعرض منهجية مقترحة لتفعيل تطبيق أحاديثه صلى الله عليه وسلم في المجالات الاقتصادية بالشكل العلمي السلمي والمواكب للظروف والمستجدات العصرية، وذلك دفعا للاتجاهات التي حاولت وما زالت تحاول تعطيل السنة وهدمها، وكذلك الاتجاهات التي حاولت الجمود عند ظاهر النصوص.
وتتلخص ملامح هذه المنهجية في النقاط التالية:
النظر في المقاصد الشرعية في موضوع الحديث.
النظر في درجة الحديث من حيث الصحة.
النظر في المناسبة وعمومها.
الآثار والأبعاد الاقتصادية المحيطة بموضوع الحديث
أقوال العلماء وشراح الحديث
الترجيح
ولا تعني هذه المنهجية إلغاء منهج الفقهاء في البحث الفقهي، والذي يبدأ بتحرير محل النزاع ثم عرض الأدلة وتمحيصها وإظهار القوي منها من الضعيف، ومدى انطباق دلالة النص على الواقعة، ومحاولة الجمع بين النصوص إذا كان ممكنا..الخ، وإنما هي محاولة اجتهادية تضيف إلى منهجية البحث الفقهي العوامل الاقتصادية بحيث تزيد من تجلية الحكم الشرعي ومطابقته للواقع الاقتصادي بالشكل الأمثل.
المطلب الخامس: السنة والأعمال الدنيوية:
تبين فيما سبق أن عادات النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان يقوم به بمقتضى طبيعته البشرية كقيامه وقعوده وطعامه وشرابه ليست تشريعا، وكذلك ما كان يكتسبه بمقتضى خبرته العملية الدنيوية، والدليل موقفه يوم بدر عندما غير مكان المعركة بعد استشارة أحد الصحابة، وكذلك مسألة تأبير النخل، فقد ورد"أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون، فقال لو لم تفعلوا لصلح قال فخرج شيصا، فمر بهم فقال ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا. قال أنتم أعلم بأمر دنياكم" وفي رواية أخرى"وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر"قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: قال العلماء ( من رأيي ) أي في أمر الدنيا ومعايشها على التشريع، فأما ما قاله باجتهاده صلى الله عليه وسلم ورآه شرعا يجب العمل به، وليس أبار النخل من هذا النوع بل من النوع المذكور قبله.
وفي ظلال قوله صلى الله عليه وسلم"أنتم أعلم بأمر دنياكم"يمكن للمسلمين في كل عصر أن يختاروا أحدث وأكفأ الوسائل العلمية والتكنولوجية ويتبعوا أفضل السياسات الاقتصادية المؤدية إلى زيادة الإنتاج والنمو الاقتصادي، كما يمكنهم أن يختاروا الطريقة المثلى والأسلوب العلمي الأفضل في تحقيق التقدم والرفاهية في كافة المجالات، ما دامت هذه الوسائل والطرق والأساليب والسياسات لا تحل حراما أو تحرم حلالا..
المبحث الثاني: السلوك الاقتصادي للنبي صلى الله عليه وسلم:
مارس النبي صلى الله عليه وسلم في حياته كافة الشئون الاقتصادية الخاصة والعامة، فقد اختار صلى الله عليه وسلم أن يجوع يوما ويشبع يوما، وبالتالي كان يشعر بإلحاح وألم الجوع، بل إنه كان يتلوى من شدة الجوع.. أخرج الإمام أحمد في مسنده قال: ذكر عمر ما أصاب الناس من الدنيا فقال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه، والدقل: الردئ من التمر. وأخرج مسلم عن أنس بن مالك قال: رأى أبو طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في المسجد يتقلب ظهرا لبطن.."
وإن هذا الشعور المؤلم لا شك يدفعه صلى الله عليه وسلم إلى التصرف أو السلوك الاقتصادي الرشيد.. فكيف كان سلوكه الاقتصادي صلى الله عليه وسلم كفرد؟ وكيف كان سلوكه الاقتصادي كحاكم وراع لهذه الأمة؟ ثم ما هي أبرز الإصلاحات الاقتصادية التي قام بها؟ هذا ما سوف تتم الإجابة عليه في المطالب التالية:
المطلب الأول: السلوك الاقتصادي الفردي للنبي صلى الله عليه وسلم
المطلب الثاني: السلوك الاقتصادي العام للنبي صلى الله عليه وسلم.
المطلب الثالث: أهم الإصلاحات الاقتصادية التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم.
المطلب الأول: السلوك الاقتصادي الفردي للنبي صلى الله عليه وسلم.
مارس النبي صلى الله عليه وسلم كافة أشكال العمل الاقتصادي، بدءاً من رعي الغنم وانتهاء بكافة أشكال التجارة.. كما مارس الأعمال اليدوية الذاتية البيتية، وكان سلوكه وفعله صلى الله عليه وسلم يدعم أقواله وأوامره ونواهيه، وهذا ما سوف نلاحظه في الفقرات التالية:
ففي مجال رعي الغنم:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يفاخر بذلك ويقول"ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم فقال أصحابه وأنت فقال نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة".
ومن المعلوم ما تتطلبه هذه الوظيفة من مشقة وتعب، ولكن منهجه صلى الله عليه وسلم كان الاعتماد على النفس وأن يأكل من عمل يده، حيث قال"ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده".
وكان صلى الله عليه وسلم يسعى لكي يحقق لنفسه دخلا يغنيه عن أن يمد يده لأعمامه أو غيرهم.. بل إنه كان يشعر بضيق الحال لدى عمه أبي طالب، كثير العيال فربما كان عمله صلى الله عليه وسلم لمساعدة عمه الذي آواه وكفله بعد وفاة جده.. وقد قام صلى الله عليه وسلم بكفالة ابن عمه علي بن أبي طالب لاحقا.
في مجال التجارة:
تعلم النبي صلى الله عليه وسلم فنون التجارة في صغره، فقد نشأ في مجتمع تجاري، حيث كانت مكة ملتقى القوافل التجارية، وكان أهل مكة أكثر أهل الجزيرة تجارة وغنى، وقد كانت رحلته إلى الشام ومقابلة الراهب بحيرا وهو فتى لم يتجاوز الثانية عشرة.. ثم توالت هذه الرحلات، ويبدو أن النبي صلى الله عليه وسلم حقق نجاحات تجارية كبيرة.. وذلك لصدقه وأمانته وأخلاقه العالية.. مما ذاع صيته.. ودفع خديجة رضي الله عنها إلى البحث عنه واستخدامه في تجارتها..ونظرا لنجاحاته المتتالية، وأخلاقياته الرفيعة، فقد حرصت خديجة رضي الله عنها على الزواج به صلى الله عليه وسلم..
في البيت:
كان النبي صلى الله عليه وسلم ينظف بيته ويخصف نعله ويخيط ثيابه، وما رؤي فارغا في بيته، بل كان دائما في حاجة أهله. روى هشام بن عروة عن أبيه قلت لعائشة ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته قالت يخيط ثوبه ويخصف نعله ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم".
وبالإضافة إلى ما تقدم فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قدوة عليا ونموذجا بشريا فريدا في كل شيء، وفي المجال الاقتصادي بشكل خاص وفيما يتعلق بكسب المال وإنفاقه، قام النبي صلى الله عليه وسلم بما يلي:
جعل من ماله ومال زوجته خديجة أول بيت مال للمسلمين، حيث كان يقوم بالإنفاق على المسلمين الأوائل، وكان ينفق منه على كافة شئون تبليغ الدعوة.. ثم توسع الأمر فدخلت أموال أبي بكر رضي الله عنه للإنفاق على تحرير العبيد الذين دخلوا في الإسلام، ويبدو أنه صلى الله عليه وسلم استمر في المرحلة المكية في ممارسة التجارة أو الإشراف عليها عن بعد، خاصة وأن زوجته خديجة كانت سيدة نساء قريش وصاحبة الأعمال والتجارة.
كما جعل النبي صلى الله عليه وسلم من بيته مصرفا لحفظ الودائع وردها عند الطلب، ولم تذكر المصادر هل كانت هذه العملية بأجر أو بدون أجر.. ويبدو أنها لم تكن بأجر.. فالوديعة والكفالة والوكالة في الأصل عقود تبرعات لا معاوضات.. وحتى في الأوقات العصيبة التي اراد المشركون فيها قتل النبي صلى الله عليه وسلم.. فقد كان يحفظ لهم ودائعهم.. والدليل إبقائه عليا رضي الله عنه لرد تلك الودائع إلى أصحابها.
المطلب الثاني: السلوك الاقتصادي العام للنبي صلى الله عليه وسلم.
يمكن القول أن السلوك الاقتصادي العام للنبي صلى الله عليه وسلم قد تبلور بشكل قوي مع بداية تأسيس الدولة في المدينة:
ففور وصوله المدينة، بدأ ببناء المسجد الجامع للناس.. ثم المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار الأغنياء والفقراء.. وما ترتب على ذلك من تقاسم الثروات.. ثم إقامة سوق للمسلمين.. ثم تحديد حدود الدولة وعلاقاتها مع الآخرين بعقد المعاهدات مع المتواجدين في المدينة من يهود وغيرهم.
وبالإضافة إلى ذلك وضع النبي صلى الله عليه وسلم ضوابط وقواعد اقتصادية عامة، تضبط التعامل الاقتصادي في المجتمع، وتصلح للتطبيق في كل زمان ومكان مع عدم تحديد الكيفيات والأساليب وذلك تمكينا للمسلمين من الاجتهاد بما يتناسب مع ظروف العصر الذي يعيشون فيه، ومن أمثلة هذه القواعد والمبادئ العامة:
أولا: لا ضرر ولا ضرار: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"لا ضرر ولا ضرار من ضار ضاره الله ومن شاق شاق الله عليه هذا.
فهذا الحديث يشكل قاعدة شرعية اقتصادية يمكن أن يندرج تحتها كل سلوك اقتصادي أو صيغة مستحدثة تؤدي إلى الإضرار بالمجتمع، وبالتالي فالعلماء المجتهدون في كل زمان أولى بتقدير هذه الصيغ أو الأدوات أو الأساليب أو الأنشطة أو المشروعات التي يمكن أن تلحق الضرر بالمجتمع، وحتى لو اشتملت على بعض النفع، فدرء المفاسد أولى من جلب المنافع.
ثانيا:"كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى ههنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه».
فهذا الحديث يشتمل على تحريم كل أشكال أكل المال بالباطل، لأن الأصل حرمة مال المسلم، فأية طريقة أو أسلوب أو صيغة يتم من خلالها الاعتداء على مال المسلم تعتبر طريقة محرمة يجب منعها.
ثالثا:"كلكم راع ومسئول عن رعيته"عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ثم كلكم راع ومسؤول عن رعيته فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته قال فسمعت هؤلاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحسب النبي صلى الله عليه وسلم قال والرجل في مال أبيه راع وهو مسؤول عن رعيته فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
رابعا : قوله - صلى الله عليه وسلم"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه"
فقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على الإتقان الذي يؤدي إلى تحقيق وفر في الجهد والوقت والتكاليف مع مراعاة الجودة النوعية والكمية.
ومن مستلزمات الإتقان الإخلاص والتفاني في العمل وعدم التأخر أو التغيب عن العمل ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب وعدم إنتاج السلع الضارة.
خامسا: قوله - صلى الله عليه وسلم -"من احتكر فهو خاطئ" والاحتكار حبس السلع الأساسية من أجل رفع الأسعار بما يؤدي إلى الإضرار بالناس، ويخرج من هذا التعريف كافة السلع والخدمات غير الأساسية، الحاجية والتحسينية، إلا إذا ترتب على حبسها ضرر حقيقي.
ولا يكون تخزين السلعة حبسا أو احتكارا في حالة وجودها في الأسواق بكثرة، وإنما في حالة اختفائها مع حاجة الناس إليها.
ومن جهة أخرى فان الاحتكار يختلف باختلاف المجتمعات، ومدى تقدمها ورفاهيتها أو تخلفها وفقرها، فيكون ضرره قليلا في الحالة الأولى وقد يكون معدوما، أما الحالة الثانية فان ضرر الاحتكار يكون خطيرا مما يستوجب منعه ومقاومته.
إن هذه الضوابط المتقدمة ليست على سبيل الحصر، كما أن ترتيبها ليس بالضرورة أن يكون وفقا لأهميتها.. وإنما حاولنا التركيز على أهم الضوابط العامة التي حرص عليها النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ومع صحابته، وحرص على أن تتمثلها أمته صلى الله عليه وسلم في كل زمان ومكان.
المطلب الثالث: أهم الإصلاحات الاقتصادية التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم:
بعث النبي صلى الله عليه وسلم والناس في جاهلية وفوضى في كل شيء، فعمل صلى الله عليه وسلم جاهدا على سد المنافذ على الفساد في المعاملات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وقد وجد بعض الفقهاء ومن خلال استقراء النصوص الشرعية، أن أسباب الفساد عامة، وفي المعاملات بشكل خاص، تنحصر في أربعة أمور هي الربا والغرر والشروط الفاسدة التي ترجع إليهما والسلع والأنشطة المحرمة، وقد تشدد النبي صلى الله عليه وسلم في تطبيق إصلاحاته الاقتصادية بمنع واجتثاث هذه الأمور الأربعة، من خلال النهي والوعيد والترغيب والترهيب واتباع كافة الأساليب التي تراعي خصائص النفس الإنسانية، ويمكن بيان ذلك كما يلي:
أولا: تحريم الربا:
وردت في السنة النبوية أحاديث كثيرة تنهى عن الربا، وتنذر باللعن والطرد من رحمة الله لآكلي الربا، ومن هذه الأحاديث:
عن جابر قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء.
بل إن بعض الأحاديث جعلت مقترف الربا كمن يقترف الفاحشة بأمه.
جاء في مصنف ابن أبي شيبة"عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الربا سبعون حوبا أيسرها نكاح الرجل أمه وأربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه ".
هذا هو مصير المرابين في الدنيا، ذل وخزي وعار أبد الدهر، أما مصيرهم يوم القيامة:
فقد رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به، حيث رأى رجلا يسبح في بركة من دم وكلما أراد الخروج من البركة ألقم بالحجارة، فسأل النبي من هذا ياأخي يا جبريل، قال آكل الربا.
جاء في فتح الباري لابن حجر العسقلاني: قال ابن هبيرة: إنما عوقب آكل الربا بسباحته في النهر الأحمر وإلقامه الحجارة لأن أصل الربا يجري في الذهب والذهب أحمر وأما إلقام الملك له الحجر فإنه إشارة الى انه لا يغني عنه شيئا وكذلك الربا فإن صاحبه يتخيل أن ماله يزداد والله من وراءه يمحقه.
إن الجزاء في الآخرة يكون من جنس العمل في الدنيا، فهؤلاء المرابون هم أشبه بمصاصي الدماء، يمتصون جهود الناس وعرقهم ودماءهم، ويستغلون ضعفهم، ويعملون على مضاعفة الأسعار باستمرار، وبالتالي فإن الجزاء المناسب لأكلة الربا، هو أن يكونوا في برك من دماء ضحاياهم لا يستطيعون الخروج منها، كما كانوا يحيطون بضحاياهم في الدنيا، ولا يسمحون لهم بالخلاص.
إن الدماء مكانها الطبيعي داخل الجسم، تجري في الشرايين والأوردة لتنقل الأكسجين والمواد المغذية لكافة أعضاء الجسم، أما إذا كانت الدماء خارج الجسم فإنها دماء نجسة ملوثة فاسدة لا يصح الاقتراب منها، وبالتالي كانت هي الموضع المناسب لأكلة الربا لأنها تتناسب مع نجاسة عقولهم التي تربت على الجشع والاستغلال والبشاعة.
ونظرا لهذه الخطورة البالغة، وتأكيدا وحرصا على سلامة التطبيق كان تأكيده صلى الله عليه وسلم على وضع ربا الجاهلية كله، وبدأ بأقرب الناس إليه وهو عمه العباس فقال صلى الله عليه وسلم "..وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب.
ثانيا:تحريم الغرر:
الغرر في اللغة من الخطر ويأتي بمعنى الشك أو الخداع أو الجهالة، وهو في اصطلاح الفقهاء مستمد من الأصل اللغوي، ويعرفونه تارة بأنه ما كان مستور العاقبة، مثل بيع السمك في الماء أو الطائر في الهواء، وتارة أخرى بأنه ما كان ظاهره يغري المشتري وباطنه مجهول، وفي تعريف ثالث هو ما تردد بين شيئين.
ولعل تعريف السرخسي في المبسوط للغرر بأنه ما يكون مستور العاقبة، يجمع بين التعريفات السابقة.
وقد ورد عن عدد من الصحابة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -"نهى عن بيع الغرر". رواه مسلم في صحيحه.
ويستفاد من الحديث تحريم بيع الغرر، وفساد عقد بيع الغرر، بمعنى عدم ترتب أي أثر عليه على رأي جماهير العلماء.
وليس هناك من شك في أن الغرر الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم كان واضحا جليا في مجتمع الرسالة، وقد مثل الفقهاء له بأمثلة عديدة بعضها كان منتشرا لدى العرب في الجاهلية، وبعضها ربما كان وليد عصور لاحقة.. وقد بالغ بعض الفقهاء في إدخال صور عديدة من البيوع ضمن بيوع الغرر، ورعا منهم وحرصا على تجنب الحرام، ونعرض فيما يلي لأشهر الأمثلة القديمة التي ذكرها الفقهاء ضمن بيوع الغرر المحرمة:-
- بيع الحصاة: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، ويكون بقذف الحصاة فما وصلت إليه من مسافة كان منتهى مساحة الأرض المباعة أو ما وقعت عليه من سلع كان هو المبيع.
- بيع المنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الآخر الثوب دون نظر أو تأمل، ويجب على المشتري قبوله."عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الملامسة والمنابذة".
- بيع الملامسة: بأن يتساوم الرجلان في سلعة، فإذا لمسها المشتري لزم البيع.
- بيع النتاج: وهو العقد على نتاج الماشية، ومنه بيع ما في ضروعها من لبن دون أن تعرف كميته أو بيع ما في بطونها من أجنة أو ما في أصلاب الفحول.
- بيع حبل الحبلة:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة"، وهو بيع نتاج النتاج، بأن تلد الناقة ما في بطنها ثم تحمل الوليدة.
- المحاقلة:"نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المخابرة، والمحاقلة، وعن المزابنة" وهو بيع البر في سنابله أو بيع الزرع بحب من جنسه.
- المزابنة: بيع الثمر بالتمر، والكرم بالزبيب والزرع بالطعام كيلا.
- بيعتان في بيعة:"نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بيعتين في بيعة"، وذلك بأن يبيع السلعة بمئة نقدا وبمئة وعشرة إلى أجل ويقبل المشتري دون أن يحدد أحدهما أو أن يبيعه دارا على أن يشتري منه بستانا، وعند ابن القيم أن النهي عن بيعتين في بيعة مماثل لنهيه -صلى الله عليه وسلم - عن بيع العينة، فهو أن يبيعه السلعة بمئة إلى أجل ثم يشتريها منه بثمانين حالة، قال ابن القيم وهذا هو المعنى الذي لا يصح سواه
ويدخل الغرر في وقتنا الحاضر في الكثير من الصيغ والعقود الحديثة كعقد التأمين التجاري والعقود الآجلة والمستقبليات والخيارات.. الخ، على خلاف بين العلماء المعاصرين.
ثالثا: الشروط الفاسدة:
وترجع هذه الشروط في الجملة إلى الربا والغرر وما ينجم عنهما من ظلم وفساد واستغلال وما يترتب عليها من خصومة ونزاع ثم تفكك وانقسام يقود إلى ضعف وهوان، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على استئصال الربا والغرر وكل ما يمكن أن يؤدي إليهما من شروط، قال صلى الله عليه وسلم"الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما، والمسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما".
فهذا الحديث يشير بوضوح إلى أن الأصل في العقود والشروط الصحة والمشروعية، إلا ما كان منها يحل حراما أو يحرم حلالا، ويفهم منه أن النظام الاقتصادي الإسلامي لديه القابلية لمواكبة كافة التطورات والمستجدات العصرية في العقود والصيغ والمعاملات، ما دامت لا تحل حراما أو تحرم حلالا.
رابعا: إهدار قيم السلع والأنشطة المحرمة:
إن المحرمات والخبائث لا اعتبار لها شرعا في الإسلام، ويطلق عليها الأموال غير المتقومة، لأن قيمتها مهدرة شرعاً.
وبناء على ذلك فإن الناتج القومي الإجمالي من منظور إسلامي سوف يختلف عنه من منظور الاقتصاد الوضعي، حيث يتم حذف كل السلع والخدمات والأنشطة المحرمة في الناتج القومي الإجمالي الإسلامي.
ومن هنا فإن هدر المحرمات من خمر وخنزير وميتة ودم ونجاسات وأنشطة وخدمات محرمة، وإن كان قد يلحق الضرر المادي بالبعض فإنه سوف يكسب المجتمع وفرا كبيرا.. فالميتة من الضأن والإبل على سبيل المثال قد يخسرها صاحبها، ولكن في هدرها نجاة للمجتمع من الأمراض والأوبئة التي قد تنجم عن طبخها وتناولها.. وكذلك الدم والخنزير والخمر وسائر النجاسات والمحرمات..
ومن جهة أخرى فإن استبعاد هذه المحرمات المستقذرات من المجتمع سوف يكسب المجتمع صحة وعافية ونشاطا وقوة ويزيد في إنتاجيته وعطائه وتقدمه مادياً ومعنوياً.
خامساً: تحديد الأوزان والمكاييل:
أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - النقود الرومية والفارسية التي كانت مستخدمة عند العرب، وتعامل بها بالرغم مما وجد عليها من صور ونقوش تخالف عقيدة التوحيد، ولا يعني ذلك إقراراً لما جاء عليها من مخالفات، وإنما كان التعامل بها اضطرارا، ونظرا لأن النقود السائدة كانت مضطربة الأوزان والأشكال والمقادير فقد حدد النبي -صلى الله عليه وسلم- وزنا واحدا لكي يتعامل به الناس، وشكلا واحدا، وهو وزن أهل مكة، وذلك في قوله -صلى الله عليه وسلم-: الوزن وزن أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة.
وتعتبر هذه الخطوة من جانب الرسول - صلى الله عليه وسلم- أول محاولة للتوحيد النقدي، وذلك من خلال توحيد أوزانها، فهذه الخطوة أشبه بإيجاد عملة حسابية، وبذلك استقر الأمر في الإسلام على أوزان شرعية محددة، وأجمع المسلمون على ثبوت هذه الأوزان وتحديد الفروض الشرعية من خلال هذه الأوزان، وكذلك الأمر بالنسبة للمكاييل التي كانت سائدة، فقد ألغيت جميعها باستثناء مكيال أهل المدينة.
بقلم: أ.د/ كمال توفيق حطاب
أستاذ ورئيس قسم الاقتصاد والمصارف الإسلامية
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة اليرموك
طباعة
ارسال