نقل هذه الشبهة الحافظ ابن حجر والإمام السخاوي رحمهما الله دون عزو، ولعله على سبيل الاستشكال ودرء الشبهة. وتدور هذه الشبهة حول بعض الآيات التي وردت في تعديل الصحابة والتي تقدم ذكرها آنفاً، حيث جاءت بتعديل من اتصف بصفات محددة منهم، ومن هذه الآيات قوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلَّاً وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَىٰ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [الحديد: 10]، وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيْباً﴾ [الفتح: 18].
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: (فإن قيل التقييد بالإنفاق والقتال يُخرج من لم يتصف بذلك، وكذلك التقييد بالإحسان في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ﴾ [التوبة: 100] يُخرج من لم يتصف بذلك..) ، وعلى هذا فإن التعديل والترضي الوارد في هذه الآيات يقتصر على المتصفين بالقيود المذكورة كالإنفاق والقتال والإحسان، وأن من سواهم خارج عنها، فلا يصح تعميم الحكم بالعدالة على جميع الصحابة.
§ جواب الشبهة:
أجاب الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله عن هذه الشبهة بقوله: (والجواب عن ذلك أن التقييدات المذكورة خرجت مخرج الغالب، وإلا فالمراد من اتصف بالإنفاق والقتال بالفعل أو القوة).
وما أجمل ما استدل به الإمام ابن حزم بنفس الآية التي يورد البعضُ شبهةَ التقييد بالإنفاق استناداً عليها، فلقد بيَّن رحمه الله أنها شاملة لجميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا استثناء، وأن التفاوت في الفضل بينهم لا يقدح في أصل ذلك الفضل، قال رحمه الله: (الناس في الجنة على قدر فضلهم، فأفضل الناس أعلاهم درجةً في الجنة)، ثم قال بعد أن ذكر الأنبياء وأزواجهم: (ثم سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجميعهم في الجنة) واستدل لذلك بما يلي: (وقال تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلَّاً وَعَدَ اللهُ الـْحُسْنَىٰ﴾ [الحديد 10]، وقال عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ﴾ [الأنبياء : 101-103]، فجاء النص أن مَن صحب النبي صلى الله عليه وسلم فقد وعده الله تعالى الحسنى، وقد نص الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الميْعَاد﴾ [الرعد: 31]).
قلت: فهذا يبين أن تفاوت الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في الإنفاق والقوة والشجاعة وحسن القتال لا ينفي اشتراكهم في أصل الفضل المشهود لهم به من الله تعالى، وأن وعد الله تعالى لهم بالحسنى والفوز بالجنة يشملهم جميعاً رضي الله عنهم وأرضاهم.
وهكذا يتبين أن هذه التقييدات الواردة في بعض النصوص إما أنها وردت لمناسبة السياق وسبب النزول، وإما أنها خرجت مخرج الغالب، وإما أنها تشير إلى ما في قلوب الصحابة رضوان الله عليهم من الرغبة الصادقة في البذل والتضحية وإن تقاصرت بهم الأعمار والأعمال عن بلوغ نواياهم، وفي الحديث: «نية المؤمن خيرٌ من عمله»، والمُخبر عن هذه النوايا هو الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيْلاً﴾ [النساء: 122].
· المصدر:
- حجية الصحابة في أصول الدين: د. وسيم فتح الله.
السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: د. مصطفى السباعي.
طباعة
ارسال