لقد استطالت فرقٌ أخرى من
أهل الأهواء والبدع على الصحابة رضوان الله عليهم فرموهم بالفسق وجرحوا شهادتهم
وردوا بذلك أحاديث الآحاد الواردة عن طريقهم، إنكاراً لحجيتهم في الرواية من جهة،
وتمهيداً لإنكار أخبار الآحاد في العقيدة من جهة أخرى. والحديث هنا بطبيعة الحال
يتعلق بالمعتزلة وموقف بعض غلاتهم من الصحابة؛ حيث لم يتورعوا عن رميهم بالفسق
والطعن في شهادتهم وبالتالي ردوا الأحاديث الواردة عن طريقهم وهي من قسم أحاديث
الآحاد.
وحتى يتضح عظم ما جاء به
هؤلاء نذكر بعض ما أُثر عنهم، فهذا واصل بن عطاء رأس من رؤوس المعتزلة يقول: (لو
شهد عندي علي وطلحة على باقة بقلٍ لم أحكم بشهادتهما لعلمي بأن أحدهما فاسق ولا
أعرفه بعينه)()،
وأما عمرو بن عبيد فزاد على فرية واصل بن عطاء حيث حكم بتفسيق الفريقين
معاً()،
ثم ازداد النظام فحشاً في الوقيعة في كبار الصحابة رضوان الله عليهم وتكذيبهم. وحكى
الشهرستاني رحمه الله أن النظَّام قد نسب عمر بن الخطاب إلى الشك في دينه، وطعن في
عثمان رضي الله عنه، وزاد على خزيه ذلك بأن عاب علياً وعبدالله بن مسعود لقولهما في
بعض مسائل الاجتهاد: أقول فيها برأيي،
وكذَّب ابن مسعود في روايته (السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن
أمه)، وفى روايته انشقاق القمر، إلى غير ذلك من الوقيعة الفاحشة في الصحابة رضي
الله عنهم أجمعين).()
قال الدكتور مصطفى
السباعي رحمه الله: (ومنه نرى أن المعتزلة ما بين شاكٍ بعدالة الصحابة منذ عهد
الفتنة كواصل بن عطاء وما بين موقن بفسقهم كعمرو بن عبيد وما بين طاعنٍ في أعلامهم
متهم لهم بالكذب والجهل والنفاق كالنظَّام، وذلك يوجب ردهم للأحاديث التي جاءت عن
طريق هؤلاء الصحابة).()
قلت: وهذه حقيقة المسألة وسر
هذا الطعن في الصحابة رضوان الله عليهم، ألا وهو التوصل إلى القدح في الأحاديث
والسنة كي يتمهد للقوم الإعلان بنتاج عقولهم ويتسنى لهم التقدم بآرائهم بين يدي
الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا سيما وأن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
الثابتة عن الصحابة تنقض أصولهم وعقائدهم الفاسدة، فلما لم يكن لهم من سبيل إلى دفع
هذه الأحاديث من حيث الدلالة لجؤوا إلى الطعن فيها من جهة الثبوت، ولكن الله تعالى
لهؤلاء وأمثالهم بالمرصاد.
* جواب
الشبهة:
لئن كان التاريخ قد طوى
أسماء أعيان المعتزلة، فإن آثار هذه الأفكار المسمومة لا تزال ظاهرة في ثنايا
مجتمعاتنا من خلال الاستخفاف بمكانة الصحابة والتعريض بهم جرحاً وغمزاً ولمزاً بحجة
النقد العلمي تارة، وبحجة صيانة العقيدة من الظن وأخبار الآحاد تارة، وبحجة
الاستدراك على علماء الجرح والتعديل من جهابذة علماء الحديث السالفين الذي لم يضعوا
الصحابة في ميزان الجرح والتعديل اكتفاءً بتعديل الله تعالى لهم تارةً أخرى. ولكن
يأبى هؤلاء إلا أن يردوا شهادة الله تعالى في الصحابة إيماناً وعدالةً كي يُحكموا
أهواءهم وعقولهم الفاسدة في خير القرون، وما ذلك كله إلا توصلاً إلى الطعن في السنة
ورد الحديث، كما هي فتنة القرآنيين المعاصرين الذي يتتبعون خطى أسلافهم من المعتزلة
ومن سار على شاكلتهم. وقد نبهنا على شبهاتهم لا لأجل أنها تستحق الرد أو تحتاج
استدلالاً على مج العقول لها، بل للتنبيه على الخطر الكامن فيها، والله
المستعان.
وتأمل
قول البغدادي بعد أن ذكر كلام واصل بن عطاء في تفسيقه أحد الفريقين يوم الجمل، حيث
قال مُنكِراً لقوله وراداً عليه: (فجائزٌ على أصله- أي على كلام واصل- أن يكون عليٌ وأتباعه فاسقين مخلدين في
النار، وجائزٌ أن يكون الفريق الآخر الذين كانوا أصحاب الجمل في النار خالدين،
فشكَّ في عدالة علي وطلحة والزبير مع شهادة النبي عليه السلام لهؤلاء الثلاثة
بالجنة، ومع دخولهم في بيعة الرضوان وفى جملة الذين قال الله تعالى
فيهم: ﴿لَقَدْ
رَضِيَ اللهُ عَنِ الْـمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ
الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح: 18]).()
ولقد
أحسن البغدادي في بيان الآثار الخطيرة المترتبة على هذا القول المنكر أعني تفسيق
الصحابة، حيث قال رحمه الله: (وقد كان أبو الهذيل والجاحظ وأكثر القدرية في هذا
الباب على رأى واصل بن عطاء فيهم، فكيف يكون مقتدياً بالصحابة من يُفسِّق أكثرهم
ويراهم من أهل النار، ومن لا يرى شهادتهم مقبولة كيف يقبل روايتهم؟ ومن رد رواياتهم
ورد شهاداتهم خرج عن سمتهم ومتابعتهم، وإنما يقتدى بهم من يعمل برواياتهم ويقبل
شهاداتهم كدأب أهل السنة والجماعة في ذلك)()،
وأما الأدلة التفصيلية الدالة على بطلان هذه التهم فقد تقدمت مستفيضة في مبحث
الأدلة الشرعية والعقلية على عدالة الصحابة رضوان الله عليهم فلا حاجة
لإعادته.
كتاب حجية الصحابة في
أصول الدين: د. وسيم فتح الله
طباعة
ارسال