قال أحمد أمين في كتابه
فجر الإسلام بعد أن تحدث عن الوضع في الحديث: (ويظهر أن الوضع حدث حتى في عهد
الرسول، فحديث «من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»()،
يغلب على الظن أنه إنما قيل لحادثة حدثت زُوِّر فيها على الرسول)().
فهو يرى –كأساتذته المستشرقين- أن الوضع في الحديث قد بدأ في عصر النبي صلى الله
عليه وسلم، أي أن الصحابة أول من بدأ بهذا الوضع والكذب. والحادثة التي عرض بها
مروية من حديث ابن بريدة عن أبيه قال: كان حي من بني ليث من المدينة على ميلين،
وكان رجلٌ قد خطب منهم في الجاهلية فلم يزوجوه، فأتاهم وعليه حلة فقال: إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كساني هذه، وأمرني أن أحكم في أموالكم ودمائكم، ثم انطلق
فنزل على تلك المرأة التي كان خطبها. فأرسل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: كذب عدو الله. ثم أرسل رجلاً فقال: إن وجدته حياً وما أراك تجده حياً فاضرب
عنقه، وإن وجدته ميتاً فأحرقه بالنار. قال: فجاءه فوجده قد لدغته أفعى فمات فحرقه
بالنار. قال: فذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كذب علي متعمداً فليتبوأ
مقعده من النار»()،
وهذه الشبهة افتراء محض، وطعن في عدالة ونزاهة الصحابة، وفيما يلي دحض هذه
الشبهة.
* جواب
الشبهة:
إن الجواب على هذه الشبهة
من وجهين:
-
أحدهما:
يتعلق بالحديث الذي يستند عليه صاحب هذه الفرية.
-
والآخر:
جواب مجمل.
·
فأما حديث ابن بريدة فجوابه من
وجهين:
× الأول من حيث السند:
ففيه
صالح بن حيان القرشي وهو ضعيف، قاله ابن عدي في الكامل وحكاه عن يحي بن
معين.()
وقال الذهبي في الميزان:
(صالح بن حيان القرشي الكوفي، عن ابن بريدة؛ ضعَّفه ابن معين وقال مرة: ليس بذاك،
وقال البخاري: فيه نظر، وقال النسائي: ليس بثقة)()،
وقال: (وقال ابن حبان: صالح بن حيان القرشي عن أبي وائل وابن بريدة ونافع، وعنه
مروان الفزاري ويعلى بن عبيد لا يعجبني الاحتجاج به إذا انفرد، وقال ابن عدي: عامة
ما يرويه غير محفوظ)()،
وقال رحمه الله في نفس هذا الحديث: (تفرد به حجاج بن الشاعر عن زكريا بن عدي عنه،
وروى سويد عن علي قطعه من آخر الحديث، ورواه كله صاحب الصارم المسلول من طريق
البغوي عن يحيى الحماني عن علي بن مسهر وصححه، ولم يصح بوجه).()
وقد
صحح إسناد الحديث شيخ الإسلام ابن تيمية وذكر له شاهداً فقال: (هذا إسناد صحيح على
شرط الصحيح لا نعلم له علة، وله شاهد من وجه آخر رواه المعافى بن زكريا الجريري في
كتاب الجليس).()
قلت: وعلى
كل حال فإن ضعف صالح ليس – فيما اطلعت عليه – من قبيل الكذب بل من جهة الضبط لاسيما
إذا انفرد، وقد ذكر ابن تيمية شاهداً
للحديث في كتابه الصارم المسلول. ومع ذلك، وعلى القول بصحة الحديث فإنه لا حجة فيه
البتة في ادعاء وزعم أن الوضع قد بدأ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الوجه
الثاني في الجواب.
× الثاني من جهة متن
الحديث:
فإن مثل هذا الحديث لا يقال عن الرجل أنه صحابيٌ أصلاً؛ فالذي كذب على رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، بل أخذه الله تعالى بعذاب
غير معتاد هذا ليس بصحابي أصلاً كما تقدم في تعريف الصحابي؛ فهذا الذي كذب على رسول
الله صلى الله عليه وسلم كذباً يشينه، حيث ادعى أنه أباح له الدماء والأبضاع فإنه
يكفر بهذا الكذب الذي هو من قبيل الاستهزاء. وهذا واضح حيث أمر النبي صلى الله عليه
وسلم بقتله، كما كان يأمر بقتل من شتمه واستهزأ به وهجاه ونحو ذلك.()
وعلق شيخ الإسلام ابن
تيمية في كلامه على هذا الحديث تعليقاً جيداً فقال: (والصحابة عدول بتعديل الله
لهم، فالكذب لو وقع من أحد ممن يدخل فيهم لعظم ضرره في الدين، فأراد صلى الله عليه
وسلم قتل مَن كذب عليه وعجل عقوبته، ليكون ذلك عاصماً من أن يدخل في العدول من ليس
منهم المنافقين ونحوهم).()
وأما الجواب
المجمل:
فإن من تأمل صفة الصحابة رضوان الله عليهم عزَّ عليه أن يستمع إلى مثل هذا الافتراء
المحض الذي يعوزه العقل فضلاً عن الدليل، وأنقل هنا كلاماً نفيساً للدكتور مصطفى
السباعي رحمه الله قال:
(ليس من السهل أن نتصور
صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين فدوا الرسول بأرواحهم وأموالهم وهجروا في
سبيل الإسلام أوطانهم وأقرباءهم وامتزج حب الله وخوفه بدمائهم ولحومهم أن نتصور
هؤلاء الأصحاب يُقدمون على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما كانت
الدواعي إلى ذلك، بعد أن استفاض عندهم قول حبيبهم ومنقذهم صلى الله عليه وسلم «إن
كذباً عليَّ ليس ككذب على أحد، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»، ولقد
دلنا تاريخ الصحابة في حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم - وبعده أنهم كانوا على
خشية من الله وتقى يمنعهم من الافتراء على الله ورسوله، وأنهم كانوا على حرص شديد
على الشريعة وأحكامها والذب عنها وإبلاغها إلى الناس كما تلقوها من رسوله صلى الله
عليه وسلم، يتحملون في سبيل ذلك كل تضحية، ويخاصمون كل أمير أو خليفة أو أي رجلٍ
يرون منه انحرافاً عن دين الله لا يخشون لوماً ولا موتاً ولا أذى ولا
اضطهاداً).()
نعم، إن العقل ليمج مثل
هذه الافتراءات فضلاً عن أن يطلب الدليل على نقضها. والدليل على نقضها موجود على كل
حال طافحة به كتب السيرة والطبقات التي سجلت لنا وللعالم كله الصفحات الناصعة
البيضاء التي سطرها التاريخ؛ تاريخ الصدر الأول المعدَّل بتعديل الله تعالى لا
بكلام أهل الجرح والتعديل.
وأنقل هنا قولاً لأمير
المؤمنين علي بن أبي طالب يبين لنا كيف كان الصحابة رضوان الله عليهم ينظرون إلى
التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال رضي الله عنه: «إذا حدثتكم عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأن أَخِرَّ من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه،
وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة».()
بل كانوا رضي الله عنهم
يتجنبون التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تكن هناك حاجة خشية الوقوع
في الكذب من جهة الخطأ لا من جهة العمد حاشاهم.
فعن جامع بن شداد قال:
سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير يحدث عن أبيه قال: قلت
لأبى الزبير: «مالي لا أراك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أسمع فلاناً
وفلاناً وابن مسعود؟ قال: والله يا بنى ما فارقته منذ أسلمت، ولكني سمعته يقول: من
كذب على فليتبوأ مقعده من النار. والله ما قال متعمداً وأنتم تقولون
متعمداً».()
فهل هذه صفة قومٍ يكذبون
ويضعون الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبحانك هذا بهتان عظيم. وسيأتي في
مبحث لاحق منهج الصحابة رضوان الله عليهم في رواية السنة بما يقطع كل شبهة في هذا
المجال إن شاء الله.
·
المصدر:
كتاب حجية الصاحبة في
أصول الدين: د. وسيم فتح الله.
طباعة
ارسال