يزعم بعض أهل الأهواء من القدماء
والمعاصرين أن أهل السنة يضفون نوعاً من القداسة وادعاء العصمة للصحابة ولهذا فهم
يأخذون بأقوالهم في الدين، فرد أهل الأهواء المذكورين على حجية قول الصحابة في
العقيدة ومسائل الدين من جهة إنكار هذه العصمة والقداسة ورمي الصحابة بشتى الطعون
والمفسقات توهيناً لمكانتهم في قلوب المسلمين وأذكر أنموذجين من هذا الكلام من
القدماء والمعاصرين:
فمن كلام القدماء طعن المعتزلة في الصحابة
والتشكيك في قيمتهم العلمية: فهذا واصل بن عطاء يقول: (لو شهد عندي علي وطلحة على
باقة بقلٍ لم أحكم بشهادتهما لعلمي بأن أحدهما فاسق ولا أعرفه بعينه).()
وعمرو بن عبيد الذي حكم بتفسيق الفريقين معاً.()
وازداد النظام فحشاً في الوقيعة في كبار الصحابة رضوان الله
عليهم وتكذيبهم، فنسب عمر بن الخطاب إلى الشك في دينه، وطعن في عثمان رضي الله
عنه، وزاد على خزيه ذلك بأن عاب علياً وعبدالله بن مسعود لقولهما في بعض مسائل
الاجتهاد: أقول فيها برأيي،وكذَّب ابن
مسعود في روايته (السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه)، وفى روايته
انشقاق القمر، إلى غير ذلك من الوقيعة الفاحشة في الصحابة رضي الله عنهم أجمعين).()
ومن كلام المعاصرين كلام بعض الروافض
المعاصرين وفيه: (وقد ذهب جمهور من أبناء العامة إلى أن جميع الصحابة عدول ولا
ينبغي أن تنالهم يد الجرح و التعديل كما تنال غيرهم من المسلمين. والعجيب أنهم مع
ادعاء الإجماع على قداسة الصحابة، وأنهم فوق مستوى الجرح والتعديل ، رووا عشرات
الأحاديث التي اختارها أصحاب الصحاح حول ارتداد الصحابة عن الدين والتمرّد على
أصوله ومبادئه على نحو لا يدع مجالاً للريب في أنهم كانوا كسائر الناس فيهم الصالح
والطالح ، والمنافق والمؤمن، إلى غير ذلك من الأصناف التي يقف عليها المتتبع لآيات
الذكر الحكيم والسنة النبوية ، وهذا أمر عجيب جداً ...).()
فمستند هذه الشبهة التي تطعن في حجية
قول صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم بشر غير معصومين ولا مقدسين، وأن
مسائل الدين وحي من السماء فكيف يكون أحدٌ من البشر خلا الرسل والأنبياء حجة في
هذه المسائل؟؟
* جواب الشبهة الأولى: وهو من وجهين:
×أولهما: أن دعوى أن أهل السنة يجمعون على قداسة وعصمة الصحابة كلامٌ
باهتٌ لا يستند إلى دليل وقد تقدم الرد عليه.()
×ثانيهما: يتمثل في تحرير المقصود بحجية الصحابة في مسائل العقيدة وأصول
الدين، ذلك أن من يثير هذه الشبهة يبني على توهم أو إيهام أن المراد بحجية الصحابة
في أصول الدين أنهم حجة على وجه التشريع ابتداءً وأصالةً، وهذا لا شك أنه باطل.
فالتشريع إنما هو لله وحده ولمن أرسل مِن رسول. ولقد تقدم أن حقيقة المقصود بحجية
الصحابة في أصول الدين، هو (لزوم طريق الصحابة في الاستدلال على مسائل أصول الدين
واعتقادها والانقياد لها)، وليس المقصود أنهم يشرعون من عند أنفسهم ابتداءً.
وإن الدلائل النقلية على إلزام الأمة
بمنهج الصحابة في الاستدلال والاعتقاد مستفيضة ذكرنا ولا نزال نذكر طرفاً منها في
هذه الرسالة()،
وأضيف في هذا الموضع بعض التفصيل في الدليل العقلي الذي تطرقت إليه آنفاً وهو قياس
الدلالة، لا للاعتماد عليه وحده وإنما لتحرير هذه المسألة تحريراً تنجلي به هذه
الشبهة بإذن الله؛ وهذا بيانه:
نحن نُسلِّم أن الصحابة رضوان الله عليهم بشر،
ونعلم يقيناً من الشرع أن الله تعالى قد رضي عن الصحابة أجمعين، ونعلم أن كل من
رضي الله عنه فهو على الصراط المستقيم، فهذه ثلاثة حدود:
- الحد الأصغر فيها هو الصحابة.
- والحد الأوسط أنهم مَرضيون.
- والحد الأكبر أن كل مَرضي فهو على الصراط المستقيم.
وليس الرضا (الحد الأوسط) بعلةٍ للكون على
الصراط المستقيم بل إن العكس هو الصحيح، وحيث إن الحد الأوسط ثابت للحد الأصغر،
فإنه يدل على أن الحد الأكبر (وهو الكون على الصراط المستقيم) ثابتٌ للحد الأصغر
وهو الصحابة، ويمكن بيان هذا الدليل بالتمثيل التالي:
الصحابةقد رضي الله عنهمكل من رضي الله عنه فهو على الصراط المستقيم
حد أصغرحد أوسطحد أوسطحد أكبر
إذاً: الصحابة على الصراط المستقيم.
فهذا الدليل هو من
قياس الدلالة، وهو لا يفتقر إلى علة()،
وغايته أن رِضى الله تعالى عن الصحابة يدل على أنهم على الصراط المستقيم من غير
علة، وعندها فلا داعي ولا جدوى من البحث في مسألة بشريتهم وتعرضهم للخطأ ونحوه،
لأن الحاصل وجود اقتران دلالي بين رضا الله تعالى عنهم وبين كونهم على الصراط
المستقيم والطريق الواضح والمحجة البيضاء. وقد تقدم كلام ابن تيمية رحمه الله في
مثل هذا.
وسوف نبين لاحقاً
بإذن الله اللوازم الفاسدة المترتبة على مثل هذه الشبهات الواهية ما تقر به أعين
المتقين المتحرين سنن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأبرار، حتى تنكشف حقيقة
هذه الشبهات وحقيقة ما يريد أصحابها من بثها بين ظهراني المسلمين، وحسبي هذه
الإشارة العابرة في هذا الموضع.
-
حجيّة الصحابة: د. وسيم فتح الله –
دار محمد الأمين للطباعة والنشر والتوزيع.
-
وانظر: حجيّة السنة: د. حسين شواط.
طباعة
ارسال