عَنْ أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: « إيَّاكمْ والحَسَدَ، فإنَّ الحَسَدَ يَأكُلُ الحَسَنَاتِ كمَا تَأكُلُ
النَّارُ الحَطَبَ» أخرجه أبو داود، ولابن ماجه من حديث أنسٍ نحوه.
درجة الحديث:
أخرجه أبو داود وسكت عنه، وقال المنذري: جد إبراهيم لم يُسمَّ وذكر
البخاري إبراهيم هذا في التاريخ الكبير، وذكر له هذا الحديث وقال: لا يصح وذكره
المنذري في الترغيب والترهيب وسكت عليه.
وذكره النووي في رياض الصالحين، وسكت عنه، وقد اشترط النووي في رياض ألا
يورد فيه إلا حديثاً صحيحاً وضعّفه السيوطي في الجامع الصغير.
وبالجملة فهو حديث مقبول والله أعلم.
* مفردات الحديث:
الحسد: تمنّي الإنسان أن يحوّل الله إليه نعمة الآخر أو فضيلته،
ويسلبها منه، هذا هو المذموم، وأما أن يتمنى النعمة لنفسه من غير أن تزول عن
صاحبها فتسمى الغبطة، فإن كانت في أمور الدنيا فمباح، وإن كانت في أمور الآخرة
فمحمودة، لأنها منافسة على الخير.
* ما يؤخذ من الحديث:
1- الحديث فيه تحذير من الحسد ووجوب مجاهدته، وأن وجوده يذهب الحسنات،
ويبطل ثوابها كما تأكل النار الحطب فتجعله رماداً.
2- الحسد الذي نهى عنه هو أن يرى الإنسان نعمة الله عند آخر فيتمنى زوالها
منه، فهذا هو الحسد المذموم.
3- الحسد قد جاء في الكتاب والسنة فقال تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ فهذا أنكار من
الله تعالى لمن يحسد الناس على نعمته.
وجاء في مسند أحمد وسنن الترمذي من حديث الزبير بن العوام عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: «دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، هي الحالقة
حالقة الدين».
وفي الحسد آثار كثيرة، وقد قيل: إن أول ذنب عصي الله به الحسد، حينما أمر
الله إبليس بالسجود لآدم، فحسده وامتنع من السجود، فطرده الله من الجنة.
4- قال ابن رجب: الحسد مركوز في طباع البشر، وهو أن الإنسان يكره أن يفوقه
أحد من جنسه في شيء من الفضائل.
والناس ينقسمون فيه إلى مراتب:
1- منهم من يسعى في زوال نعمة المحسود بالبغي عليه بالقول والفعل.
2- ومنهم من يسعى في نقل ذلك إلى نفسه.
3- ومنهم من يسعى في إزالة المحسود فقط من غير نقل إلى نفسه.
وهذا كله حسد مذموم وهو المنهي عنه.
4- وقسم آخر من الناس إذا حسد غيره لم يعمل بمقتضى حسده، ولم يبغ على
المحسود بقول ولا بفعل، وقد روي عن الحسن أنه لا يأثم بذلك.
5- وقسم آخر إذا وجد في نفسه الحسد سعى في إزالته، وفي الإحسان إلى
المحسود بإيذاء الإحسان إليه، والدعاء له ونشر فضائله، وفي إزالة ما وجد في نفسه
من الحسد حتى يبدل بمحبته.
وهذا من أعلى درجات الإيمان، وصاحبه هو المؤمن الكامل الذي يحب لأخيه ما
يحب لنفسه.
5- وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الحسد نوعان:
نوع محرم مذموم، وهو أن يتمنى زوال نعمة الله عن العبد، سواء أحب ذلك محبة
استقرت في قلبه ولم يجاهد نفسه عنها، أو سعى مع ذلك في إزالتها وإخفائها، وهذا
أقبح لأنه ظلم متكرر.
وهذا النوع هو الذي يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.
النوع الثاني: أن لا يتمنى زوال نعمة الله عن العبد، ولكن يتمنى حصول
مثلها له أو فوقها أو دونها.
وهذا نوعان: (محمود وغير محمود).
فالمحمود: أن يرى نعمة الله الدينية على عبده، فيتمنى أن يكون له مثله،
فهذا من باب تمني الخير، فإن قارن ذلك سعي وعمل لتحصيل ذلك، فهو نور على نور.
وأما الغبطة التي لم تحمد، فهي تمني حصول مطالب الدنيا، لأجل اللذات
وتناول الشهوات كقصة قوم قارون.
6- قال ابن القيم عند قوله تعالى: ﴿وَمِن
شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ نأمل تقيده سبحانه وتعالى شر الحاسد بقوله: ﴿إِذَا حَسَدَ﴾ لأن الرجل قد يكون عنده الحسد، ولكن يخفيه ولا يظهر
عليه بوجهه ولا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده، بل لا يجد في قلبه شيئاً من ذلك، ولا
يعامل أخاه إلا بما يحب الله، فهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا من عصم الله.
وللحسد ثلاث مراتب:
إحداها: هي المتقدمة.
الثانية: تمني استصحاب عدم النعمة، فهو يكره أن يحدث الله بعبده نعمة، بل
يحب أن يبقى على حاله من جهله أو فقره أو ضعفه أو شتات قلبه عن الله، أو قلة دينه،
فهو يتمنى ما هو فيه من نقص وضعف، فهذا حسد على شيء مقدر، والأول حسد على شيء
محقق، وكلاهما حاسد عدو نعمة الله، وعدو عباده، وممقوت عند الله تعالى وعند الناس.
الثالث: حسد الغبطة وهو تمني أن يكون له مثل حال المحسود، من غير أن تزول
النعمة عنه، فهذا لا بأس به ولا يعاب صاحبه، بل هذا قريب من المنافسة قال تعالى: ﴿فِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا حسد إلا في اثنتين:
رجل آتاه الله مالاً وسلّطه على هَلَكَته في الحق، وجل آتاه الله الحِكم فهو يقضي
بها ويعلمها الناس».فهذا حسد غبطة، الحامل لصاحبه كِبَر نفسه وحب خصال الخير،
والتشبه بأهلها، والدخول في جملتهم، وأن يكون من سباقيهم، وعليه فتحدث له من هذه
الهمة المنافسة والمسابقة والمسارعة، مع محبته لمن يغبطه، وتمني دوام نعمة الله
عليه، فهذا لا يدخل في الآية بوجه ما.
قال الغزالي: الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب، ولا دواء لأمراض القلوب
إلا بالعلم والعمل، والعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعرف أن الحسد ضرره عليك في
الدين والدنيا.
والمحسود لا ضر عليه في الدنيا ولا في الدين، بل ينتفع بحسدك في الدين،
لأنه مظلوم من جهتك، لا سيما إذا أخرجت الحسد إلى القول والفعل.
وأما منفعته في الدنيا، فهو أنه من أهم أغراض الخلق غمّ الأعداء، ولا عذاب
أعظم مما فيه الحاسد.
وأما العمل النافع فيه: فهو أن يتكلف نقيض ما يأمره به الحسد، وهو بَعْثه
على الحقد والقدح في المحسود، فيكلف نفسه المدح له، والثناء عليه، وإن حمله على
الكبر ألزم التواضع له، وإن بَعَثَه على كف الإنعام عنه ألزم نفسه زيادة في
الإنعام.
فهذه أدوية نافعة للحسد إلا أنها مرة، ويسهّل شربها الاستعانة بالله
تعالى، ومجاهدة النفس الأمارة بالسوء.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
* * *
* المصدر:
- توضيح الأحكام من بلوغ المرام: الشيخ عبدالله البسام.
- نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار: محمد بن علي الشوكاني.
طباعة
ارسال