عَنِ النُّعمان بنِ بشيرٍ – رضي الله عنه – قال سمعتُ رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: وأهوى النُّعمانُ بإصبعيه إلى أُذُنَيْهِ «إنَّ
الحلالَ بيِّنٌ وإنَّ الحرامَ بيِّنٌ، وبينهما مُشتبهاتٌ لا يعلمُهُنَّ كثيرٌ من
الناسِ فمن اتَّقى الشُّبُهاتِ فقد استبرأَ لدينه وعرضه، ومنْ وقع في الشُّبُهاتِ
وقع في الحرام: كالرَّاعي يرْعى حولَ الحِمى يُوشكُ أنْ يقع فيه، ألا وإنَّ لكلِّ
ملكٍ حمًى، ألا وإنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، ألا وإنَّ في الجسد مضغةً إذا
صلحتْ صلح الجسدُ كُلُّهُ، وإذا فسدتْ فسدَ الجسدُ كُلُّهُ، ألا وهي القلبُ»
مُتَّفَقٌ عليهِ.
مفردات الحديث:
مُشْتبهات: المشتبهات: بضم الميم وسكون الشين وكسر الباء الموحدة،
وفيها عدة روايات بغير هذا الضبط، هي غير الواضحات البينات، فهي كل ما تتنازعه
الأدلة وتتجاذبه المعاني، فالإمساك عنه ورع.
استبرأ لدينه وعِرْضه: بالهمزة من البراءة أي احتاط فحصل
له براءة من الذم الشرعي، وصان نفسه وعرضه عن ذم الناس.
عِرْضَه: بكسر العين والعرض موضع المدح والذم من الإنسان، فهي الأمور
التي بذكرها يرتفع أو يسقط، ومن جهتها يحمد أو يذم.
في الشُّبُهَات: بضم الشين والباء جمع شبهة.
وَقَع في الحرام: الوقوع في الشيء السقوط فيه، وكل
سقوط يعبر عنه بذلك، وإنما قال: وقع، ولم يقل: يوشك أن يقع فيه تحقيقاً لمداناة
الوقوع، كما يقال: من اتبع هواه هلك، وإلا فحقيقة الأمر هو: يوشك أن يقع فيه.
الحِمَى: بكسر الحاء وفتح الميم المخففة مقصور أطلق اسم المصدر على
اسم المفعول وهو موضع حَظَره الإمام على الناس لنفسه، ومنع غيره منه.
يُوْشِك: بضم الياء وكسر الشين بمعنى يقرب ويسرع.
محارمه: معاصيه التي حرمها كالقتل.
ألا: مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي لإعطاء معنى التنبيه على
تحقق ما بعدها.
مُضْغَة: بضم الميم وسكون الضاد المعجمة بعدها غين معجمة آخرها تاء
التأنيث، هي القطعة من اللحم بقدر ما يمضغ الإنسان.
صَلَحت: بفتح اللام وضمها والفتح أفصح والصلاح ضد الفساد.
ألا وإن في الجسد مضغة... ألا وهي القلب: أبهم في الجملة الأولى،
وبيّن في الثانية، وكرر حرف التنبيه لبيان فخامة شأنها وعظيم موقعها، وعبّر عن
القلب بالمضغة لأنه قطعة من الجسد، كما أن في المضغة معنى التصغير مع أن صلاح
الجسد أو فساده تابعان لهذه المضغة، تعظيماً لشأنها، ذلك أن من معاني التصغير
التفخيم.
ما يؤخذ من الحديث:
1- الحلال بيّن حكمه واضح أمره لا يخفى حِله، وذلك كالخبز والفواكه والعسل
واللبن وجميع المأكولات والمشروبات والملابس الواضح حلها وكذا المعاملات
والتصرفات.
2- وإن الحرام بيّن حكمه واضح تحريمه، من أكل الخنزير وشرب الخمر ولبس
الحرير والذهب للرجل والزنا والغيبة والنميمة والحقد والحسد وغير ذلك.فهذان
القسمان الحكم فيها بيّن لما ورد فيهما من النصوص القاطعة.
3- هناك قسم ثالث مشتبه الحكم غير واضح الحل أو الحرمة، وهذا الاشتباه
راجع إلى أمور:
4- منها: تعارض الأدلة بحيث لا يظهر الجمع ولا الترجيح بينها، فهذا
مشتبه في حق المجتهد الذي يطلب الأحكام من أدلتها.
فمن انبهم عليه الحكم الراجح، فهو في حقه مشتبه فالورع اتقاء الشبهة.
5- ومنها: تعارض أقوال العلماء وتضاربها، وهذا في حق المقلِّد الذي
لا ينظر في الأدلة، فالورع في حق هذا اتقاء المشتبه.
6- ومنها:ما جاء في النهي عنها حديث ضعيف يوقع الشك في مدلوله.
7- ومنها: المكروهات جميعها فهي رقية (أي: سلّم وَصْل) إلى فعل
المحرمات والإقدام عليها، فإن النفس إذا عصمت عن المكروه هابت الإقدام عليه ورأته
معصية، فيكون حاجزاً منيعاً عن المحرمات.
8- ومنها: المباح الذي يخشى أن يكون ذريعة إلى المحرم، أو يحر – في
بعض الأحوال – إلى المحرم، ومثله الإفراط في المباحات فتسبب مجاوزته إلى الحرام
إما عند فقده أو للإفراط فيما هو فيه.
وبناء عليه فإن هذا الحديث أصل في الورع، وهو أن ما اشتبه على الرجل أمره
في الحل أو الحرام، فالورع تركه وتجنبه، فإنه إذا لم يتركه واستمر عليه، واعتاده
جرّ ذلك إلى الوقوع في الحرام.
9- وقد كان السلف – رضي الله عنهم – يتركون المباحات اليسيرة خوفاً من
المكروه والحرام، ذلك أن من لم يتعد الشبه في كسبه ومعاشه فقد عرّض دينه وعرضه
للطعن.
10- ثم ضرب صلى الله عليه وسلم مثلاً للمحرمات بالحِمَى الذي يتخذه
الخلفاء والملوك مرعى لدوابهم.
ومثل الملم بالمشتبهات بالراعي الذي يسيم ماشيته حول الحمى، فيوشك ويقرب
أن ترعى ماشيته فيه لقربه منه، كذلك المُلِمّ في المشتبهات يوشك أن يقع في
المحرمات، وهو تصوير بديع ومثال قريب.
11- ثم ذكر صلى الله عليه وسلم أن في الجسد لحمة صغيرة لطيفة بقدر ما يمضغ،
وإن هذه القطعة من اللحم هي القلب، وإن القلب هو السلطان المدبر لمملكة الأعضاء،
وما تأتي من الأعمال فعليه مدار فسادها أو صلاحها.
فإن صلح القلب فإنه لن يأمر إلا بما فيه الخير، وسيصلح الجسد كله، وإن فسد
فسيأمر بالفساد والشر، وتكون الأعمال معكوسة منكوسة، والله ولي التوفيق.
12- وبالجملة فهذا حديث عظيم جليل، وقاعدة من قواعد الإسلام، وأصل من أصول
الشريعة عليه لوائح أنوار النبوة ساطعة، ومشكاة الرسالة مضيئة، فهو من جوامع كلام
النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتاج استيفاء الكلام عليه إلى مصنَّف مستقل طويل.
13- اتفق العلماء على عظم هذا الحديث وكثرة فوائده، وأنه من الأحاديث التي
عليها مدار الإسلام، قيل: هو ثلثه وحديث «إنما الأعمال بالنيات»، ثلث، وحديث «من
حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» الثلث الباقي.
14- قوله [الحلال بيّن والحرام بيّن]: معناه أن الأشياء ثلاثة أقسام:
حَلال بيّن واضح حِلّه، وحرام بيّن واضح الحرمة، والمتشابه هو الذي يحتمل الأمرين،
فاشتبه على الناظر بأيهما يلحق، وإليه أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا يعلمهن
كثير من الناس» ففيه أنه يعلمهن قليل من الناس، وهم الراسخون من العلماء بنص أو
قياس أو استصحاب أو غير ذلك، فإذا اجتهد المجتهد فألحقه بأحدهما صار حلالاً أو
حراماً، فإذا فَقَد هذه الدلائل فالورع تركه، لأنه دخل بقوله صلى الله عليه وسلم: «فمن
اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه».
* * *
* المصدر:
- توضيح الأحكام من بلوغ المرام: الشيخ عبدالله البسام.
- نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار: محمد بن علي الشوكاني.
طباعة
ارسال